بغداد تنشد زمناً يليق ببلاد الرافدين

علي الأمين
تفقد إيران شيئا فشيئا من رصيدها “إنجازاتها” التي حققتها في السنوات الأخيرة، بفضل التخبّط الأميركي، في المنطقة. بعد أن تغيّرت ملامح خارطة المنطقة الإقليمية وخارطة موازين القوى الدولية، تقف إيران على حافة هذه الخارطة وهي على وشك أن تخرج منها خالية الوفاض. فأينما ولّت وجهها تقابلها دعوات الرفض والرغبة في أخذ مسافة منها. وواجهها ذلك حتى في حصنها العراقي، حيث بات من الواضح أن أغلب القوى السياسية القريبة من إيران تحاول التخفف من العلاقة معها.

لم تزل بغداد تلك العاصمة التي تتطلع نخبها الثقافية والفكرية إلى استعادة ألقها كمركز حضاري عربي وإسلامي. مثّل عهدا هارون الرشيد والمأمون قمة النهضة الحضارية في العصر العباسي.

تميّزت بغداد بكونها مركز استقطاب للعلماء والمترجمين من كافة القوميات والشعوب الحية في ذلك التاريخ، وشكّل هذا التلاقي رحما لتلاقح الأفكار والعلوم ومركز إشعاع، لم تزل آثاره ممتدة إلى اليوم.

ليس ما تقدّم إلا محاولة لفهم هذه المدينة التي تختصر في مكوّناتها الاجتماعية والسياسية، العراق الجريح منذ عقود، فالعراق المُثخن منذ أربعة عقود ولا يزال، لم يزل أهله ينشدون زمنا يليق ببلاد الرافدين وأرض السواد والنخيل.

قبل أيام احتضنت هذه المدينة ملتقى الرافدين-بغداد 2019، تضمّن سلسلة لقاءات تمحورت حول العراق، في التجربة السياسية والحكم، والسياسة الخارجية، وفي القضاء، وفي التنمية والاستثمار، إلى غير ذلك من شؤون هي في جوهرها قضايا أعمّ من العراق، تمسّ المنطقة العربية اليوم، ومحيطها الإقليمي إلى حدّ كبير.

‏في الملتقى هذا، الذي نظمه مركز الرافدين للحوار، وهو إحدى مؤسسات المجتمع المدني العراقي ومركزه في مدينة النجف الأشرف، حضره أكثر من 500 مشارك، بينهم 50 مدعوّا من خارج العراق. المدعوون يمثّل معظمهم حكومات دولهم أو مؤسسات مجتمع مدني ومراكز دراسات قريبة من مراكز القرار.

تحدث ‏الرئيس العراقي برهم صالح، الذي افتتح المؤتمر بوضوح عن إستراتيجية الانفتاح على المحيط العراقي ولاسيما الدول العربية، معتبرا أن “التكامل الإقليمي هو السبيل لخروج العراق من أزمته”.

اقرأ أيضاً: هذا ما يحتاجه لبنان من إيران يا ظريف

بغداد تجمع المتناقضات
على الرغم من الصورة غير المُشرقة لأوضاع العراق السياسية والاقتصادية والتنموية، إلاّ أن ما يمكن التنويه به من خلال أعمال المؤتمر التي استمرّت لثلاثة أيام (4 إلى 6 يناير 2019) أن بغداد هي المدينة العربية الوحيدة القادرة على جمع هذا الكمّ من الاتجاهات العربية والإقليمية المتنوعة والمتعارضة.

في بغداد وفي قاعة واحدة كان مسؤولون أميركيون سابقون وحاليون ومسؤولون إيرانيون، وممثلون عن السعودية والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان والكويت وتركيا وروسيا والمغرب والجزائر والأردن وبريطانيا وألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية بالإضافة إلى الاتحاد الأوربي.

‏المشهد قد يبدو مُلفتا ومُثيرا للتساؤل، بل يفتح آفاقا للكثير من الآراء والملاحظات، الجميع مهتمون لأن يكون في العراق فاعلا ومؤثرا، وهذا ليس مفاجئا، بل يمكن ملاحظة كيف أنّ القوى السياسية في العراق ولاسيما المشاركة في السلطة، تبدو توّاقة لفتح أبواب تقول إنها لا تزال مُوصدة، الاهتمام بالحضور السعودي والإماراتي كان جليّا من قبل القوى السياسية العراقية التي تُتهم بالتبعية لإيران.

اللقاءات في الغُرف الجانبية هي الأهم، المشهد كان مفتوحا على كل اللقاءات، ما خلص إليه مدير أحد المراكز الخليجية القريب من السلطة، هو الدهشة من الترحيب العراقي بالوفود الخليجية.

وقال “عقدنا لقاءات مع العديد من القيادات العراقية الرسمية والحزبية، ومع شخصيات مستقلّة، الجميع متعطّش لعلاقات متينة وتعاون واسع بين العراق ودول الخليج”.

وأكد المصدر الخليجي، أن العراق اليوم أكثر قدرة، استنادا إلى ما لمسه من توجهات رسمية وشعبية، “لإعادة الدولة بقوة إلى الخارطة العربية والإقليمية والدولية”.

أحد المسؤولين العراقيين المعروف بصلته بالقيادات الإيرانية، قالها بصراحة إن الحشد الشعبي تحوّل إلى معبر لتمويل النفوذ الإيراني في سوريا واليمن ولبنان، فتمويل الحشد الشعبي من الخزينة العراقية، وبحسب تعبير المسؤول، “أموال الحشد تؤخذ بالأكياس من الخزينة، ولا وجود لرقابة جدية لعملية صرف هذه الموازنة”.

إزاء هذا الاتهام للإيرانيين، برز في العراق ولا يزال مطلب حصرية السلاح في يد السلطة العراقية، والتخلّص من علة عدم مركزية قرار السلاح، وهذا ما يدعو إليه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وتيار الحكمة الذي يرأسه عمار الحكيم.

هؤلاء يتحدثون بصراحة عن ضرورة عدم وجود سلطة سلاح خارج القوات المسلحة الرسمية، وهم يقولون ذلك لا يخفون قلقهم من أن يتكرّر مشهد تداعي الدولة وضعفها، من خلال استعراض النماذج التي سعت إيران إلى اعتمادها في لبنان وغيره.

‏ما قاله المرجع الشيعي السيد علي السيستاني كرأس المرجعية في النجف خلال استقباله ممثلة الأمم المتحدة في العراق قبل أيام، كان واضحا على هذا الصعيد.

وعلى طريقة المرجعية في التوجيه العام من دون التورط في الانزلاق إلى زواريب السياسة، أكد على ضرورة أن يكون السلاح حصرا في يد الدولة. وهذا ربما ما يطرح تساؤلا يمكن توجيهه لبعض اللبنانيين غير المؤمنين بحصرية السلاح بيد الدولة، هل يمكن الاهتداء بمثل هذا المطلب لأعلى مرجعية شيعية دينية في العالم؟

‏لا تحتاج إلى تفحّص المعاني ما بين الكلمات، لتدرك أن العراقيين على وجه العموم لا يستسيغون الدور الإيراني في العراق، لا بل تبدو شخصية قائد فيلق القدس قاسم سليماني الشخصية الأولى المنفرة لمعظم العراقيين، ويُنظر إليه باعتباره النموذج السيء لإيران في العراق.

نصحت بعض القوى السياسية العراقية، ولاسيما التي تتمتع بعلاقة علنية جيدة مع القيادة الإيرانية، القيادة الإيرانية باعتماد نموذج مختلف عن سليماني كشخصية عسكرية لإدارة العلاقة مع العراق، رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي الذي يبدي استياءه من بعض تدخلات سليماني في شأن السلطة في العراق، أكد أنه يريد أفضل العلاقات بين العراق وإيران، لكن نريدها بالطرق الرسمية والدبلوماسية وعلاقة ندّية وعبر ممثلين دبلوماسيين كوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف على سبيل المثال لا الحصر.

‏من الثابت أن العراقيين ولاسيما الكتل البرلمانية على وجه العموم، ليسوا في وارد أي مطالبة جدية بخروج القوات الأميركية من العراق، هذا ما قاله معظم المسؤولين العراقيين الرسميين ولاسيما الرؤساء الثلاثة، بل وفي مفارقة ملفتة، أن قائد عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، وهو التنظيم الذي صدرت عنه مواقف عدة تدعو إلى خروج القوات الأميركية من العراق في الآونة الأخيرة، قال، خلال حوار في ملتقى الرافدين وبحضور قائد القوات الأميركية السابق في العراق، “لا نريد خروج القوات الأميركية”.

وأكد أن العراق يحتاج إلى الوجود الأميركي على صعيد تدريب الجيش وتزويد العراق بالتقنيات والخبرات العسكرية في مواجهة الإرهاب، ما دفع المسؤول الأميركي بعد الجلسة إلى سؤال مدير الجلسة هل المترجم كان دقيقا في نقل ما قاله الخزعلي؟

‏النفوذ الإيراني في العراق ليس نفوذا بسيطا، بل جرى ترسيخه خلال السنوات السابقة، في مفاصل عديدة في الدولة، ولا يمكن في مقاربة الوضع العراقي اليوم القول إن من المرجّح وفي المدى القريب، أن يشهد العراق تحرّرا من هذا النفوذ غير الشرعي. لكن لا يمكن لزائر العراق، إلا أن يلحظ سعي معظم القوى السياسية القريبة من إيران إلى محاولة التخفف من العلاقة معها، ما يمكن الجزم به، أن التبعية لإيران في العراق باتت لصاحبها عنصر ضعف داخل المجتمع العراقي، إذ ليس في العراق من يطمح لأن يكون قوّة سياسية فاعلة

ويضع خلف مكتبه صورة وليّ الفقيه علي خامنئي أو الخميني، هذه الصور كفيلة بإنهاء فرص الاستقطاب والتأييد له في المجتمع العراقي.

السابق
القانون الألماني قانون الرحمة…
التالي
حزب الكتلة الوطنية