العراقيون يبحثون عن جنتهم في أرضهم لا في السماء

العراقيون ،بخلاف اللبنانيين، متفّقون لجهة الاعتداد بانتمائهم الوطني أكثر من الاعتداد بالمكون الديني أو الطائفي، مع نمو شعور لدى العراقيين ان ثروتهم النفطية والبشرية تجعلهم لا يحتاجون عونا اقتصاديا أو ماليا من أحد.

لم تزل بغداد في مكان قصي عن تاريخ المدينة المشع بعصر الأنوار، تلك المدينة التي كان تأسيسها وتشييدها في منتصف القرن الثاني الهجري (145هـ/ 762م) ايذاناً بنهضة حضارية شهدها العهد العباسي، فصارت عاصمة الخلافة العباسية، ومركز الحيوية الفكرية  والعقلية التي شهدت عملية تاريخية عبر ترجمة للتراث اليوناني ما أدّى الى نهضة الفلسفة العربية والاسلامية، فتأسست مدارس ومذاهب كانت بغداد ركنها، وتعبيراً عن مرحلة مضيئة، العقل كان اساسها.

في عهد أبي جعفر المنصور بُنيت بغداد، وبعد فترة وجيزة أضحت حاضرة الخلافة العباسية، وباتت «قلب الدنيا» كما وصفها كثر من الرحالة والمؤرخين.

وطنية عراقية وأعباء ايرانية

كزائر لبناني الى بغداد ولنحو اسبوع، يمكن أن يلمس كم أن الوطنية العراقية، حاضرة وتتقدم في الوجدان الشعبي العراقي وفي الخطاب واللغة السياسية، بل يلمس كم أن الايديولوجيا والعصبيات المذهبية، تنكفئ لصالح نظام مصالح وطني، دفع بالقوى السياسية على اختلاف مشاربها، الى إعادة بناء لغتها السياسية، بما يتلاءم مع هذا النزوع الشعبي الى لغة عراقية وطنية بعيدة عن لغة الايديولوجيا والطائفة.

اقرأ أيضاً: هذه بغداد: هنا لا صور لخامنئي ولا للخميني…

ويظهر العراقيون ،بخلاف اللبنانيين، متفّقين لجهة الاعتداد بانتمائهم الوطني أكثر من الاعتداد بالمكون الديني أو الطائفي في سياق مقاربة المشهد السياسي، تاريخ الدولة والمجتمع في العراق قديم، بحيث من الطبيعي أن تجد التنوع المذهبي السني والشيعي في تكوين العشيرة على سبيل المثال، فضلا عن التنوع الديني والقومي الهائل ولعل عنصراً آخر لا يمكن تغييبه في سياق رصد صعود الوطنية العراقية اليوم، هو الثروة العراقية البشرية المشتتة في اصقاع الأرض وتلك التي تكتنزها الأرض من نفط وغاز ومعادن وامكانيات زراعية هائلة، هي عناصر مهمة في نمو شعور لدى العراقيين بانهم لا يحتاجون عونا بشرياً أو اقتصاديا أو ماليا من أحد، وهو شعور ينطوي على قناعة بيّنة في العديد من الأحاديث والشهادات التي سمعناها من مواطنين ومسؤولين، أن دولاً وجماعات تنهب العراق، فضلا عن أن العراق تحول إلى سوق مفتوحة للمنتجات الإيرانية والتركية بشكل واسع وعلى حساب اي إنتاج عراقي قائم أو محتمل.

بكل الأحوال، لن نذهب بعيدا في مآسي المشهد العراقي، الذي مهما بلغ من المرض والعلل التي تناله من اطماع خارجية، وتثخنه بجروح الفساد، إلا أن ذلك لن يقلل من أهمية النهوض من اهوال الحرب والمفخخات وركامها، الذي يلمسه زائر العراق هذه الأيام لدى المجتمع، فبغداد تنعم بأمن لم يسبق أن عاشته منذ الدخول الأميركي الى العراق عام ٢٠٠٣، هذا ما يقوله العراقيون، وهذا ما تؤكده عملية إزالة العوائق الاسمنتية المستمرة والتي أحاطت بالمنطقة الخضراء وأغلقت شوارع وفصلت مناطق واحياء بعضها عن البعض الآخر. بغداد تتنفس وتخرج الى الحياة، إرادة العيش وعملية التحرر من أسر الأزقة السياسية والعصبية، واضح الملامح.

ليس في العراق على صعيد النخب السياسية، ما يمكن أن يشير إلى اغراء يدفعهم نحو تبني أو الترويج أيديولوجيا دينية أو مذهبية، يتنافس من يندرجون في خانة القوى الدينية او الطائفية اليوم في العراق، نحو إظهار انهم قوى تجمع في صفوفها افراداً من كل مكونات النسيج الوطني العراقي، رجل الدين عمار الحكيم أكد لنا، أن تيار الحكمة الذي يرأسه، ليس تيارا دينيا ولا تنظيما مذهبيا، وأكد أن مجلس قيادة التيار يضم سنّة وشيعة وكرداً ومسيحيين ومن غيرهم من المكونات العراقية، كما أن مقتدى الصدر، نجح الى حد بعيد في خلق أطر تحالف وتعاون مع تيارات علمانية ومنظمات مجتمع مدني، يقول بعضهم انهم ساهموا في تطوير خطابه الذي بات يعبر عن المجتمع العراقي، بل امكن كما قال أحد القريبين من الصدر وهو ينتمي إلى الحزب الشيوعي، بأن بيانات الصدر ومواقفه، شهدت تطوراً على صعيد اعتماد لغة عراقية تمس كل مواطن عراقي مهما كان انتماؤه الديني.

اقرأ أيضاً: ثرثرة على ضفاف دجلة: بغداد وقاطرة العراق الوطنية

بحثاً عن جنّة العراق والدولة

ما تقدم هي مؤشرات من مظاهر عديدة تشير إلى انتقال في اللغة السياسية من خطاب ضيق الى خطاب وطني عام، وما أوردناه عن الصدر والحكيم، هو للإشارة إلى أن هذين النموذجين من رجال الدين، يظهران توقاً وفعلاً لخطاب سياسي ينتقل من اللغة الدينية أو المذهبية، الى خطاب وطني عراقي، وهذا برأي بعض المراقبين العراقيين، لا يعود لوطنية الرجلين فحسب، ولا لكونهما يمثلان عمقاً عراقياً وعربياً فحسب، بل لادراكهما أن العراقيين سئموا الخطاب الفئوي، الخطاب الذي استنفذ كل امكاناته، ولم يعد يلبي طموح المواطنين ومطالبهم الآنية والمستقبلية، هم يريدون “جنّة العراق” اليوم، بعد أن اوفدت الصراعات المذهبية مئات الآلاف من الضحايا الى “جنة السماء” خلال العقود المنصرمة. وما يعرفه العراقيون عن تورط القوى السياسية بالفساد والمحاصصة، يدفعهم إلى التربص والتشكيك، لذا فالقوى السياسية باتت تدرك أن الهروب من مواجهة استحقاق بناء الدولة أو ترميمها، وحماية الثروات الوطنية من التبديد، لم يعد متاحاً كما في سنوات الاحتلال أو خلال الحرب على تنظيم داعش، استحقاق الدولة يفرض نفسه، وما جرى في البصرة في حادثة احراق القنصلية الإيرانية قبل شهرين، كان رسالة من أن الغضب في الشارع، قد وصل إلى ما لم يكن يتخيله حتى خصوم إيران في العراق وخارجه.

السابق
نائب قواتي تبرّع لعائلة جورج زريق.. المبلغ أكبر مما دفعه النائب الكويتي!
التالي
كتاب «قانون رقم 105 – قانون المفقودين والمخفيين قسراً»