السيد الأمين: عن ضرورة التفاعل بين الدراسة الفقهية والدراسة الأكاديمية

السيد محمد حسن الامين

في كتاب “أمالي الأمين” يجيب العلامة السيد محمد حسن الأمين عن الدّعوات المطالبة بالجمع بين الحوزة والجامعة، فيقول:
أعتقد أنّه يجب أن يكون هناك تفاعل مستمر تنشأ ضرورته في تقديري من ضرورة الاستفادة من المناهج العلميّة والفكريّة المستجدة لأنّ الدين في نظري هو حقل من حقول المعرفة، ولأنّ حقول المعرفة وإن كانت كل واحدة منها مستقلة عن الأخرى، إلّا أنّ ثمة تفاعلاً ضرورياً بين هذه الحقول، كما هو التفاعل القائم بين حقول المعرفة الوضعيّة من علوم إنسانيّة وعلوم تطبيقيّة، ولا ينبغي أن تكون المعرفة الدينيّة على الأقل في حدّها الأدنى الضروري معزولة عن حقول المعرفة واختصاصاتها المتعددة التي تدرس في الجامعات الحديثة.

اقرأ أيضاً: المحكمة الخاصّة لرجال الدين

فنحن نعلم بأنّ الاختصاصات المتعددة في حقول المعرفة الإنسانية تطوّرت وأبدعت مناهج جديدة، وهي مناهج موضوعية لا يمنع الدين من الاستفادة منها لإنتاج مناهج متجددة في دراسة العلوم الدينيّة، كما لا بدّ لطلاب العلوم غير الدينيّة أن يكونوا على صلة بكثير من مبادئ العلوم الدينيّة حتى لا يبقى هذا الفصل الضار بين المعرفة الدينيّة والمعرفة الوضعية، ومن المعلوم أنّ مناهج الجامعات الرسمية وغير الرسمية في عالمنا العربي قد نشأت إمّا بمبادرة الاستعمار في المرحلة الماضية وإمّا أنها أنشأت وفق مناهج الجامعات التي وضعها الاستعمار والتي كانت تستبعد دراسة المعارف الدينيّة.
وقد نجح ـ بكل أسف ـ الاستعمار في مرحلة طويلة من تاريخنا الحديث في إبعاد النخب المثقّفة التي تتخرّج من هذه الجامعات في إبعادها عن الإسلام، وفي تقديم نظرة مشوّهة إلى مبادئ الدين.
ومن الطبيعي إذا أردنا أن نواجه هذه الظاهرة، وأن نصلح المناهج الجامعيّة أن نقيم جسراً متيناً من التواصل بين العلوم الدينيّة الأصيلة التي تتوفر عليها الحوزات العلميّة الدينيّة الجادة وبين الجامعات الرسمية والأهلية التي تدرس العلوم الإنسانيّة والعلوم التطبيقيّة وفق المناهج الغربية.
وفي تقديري أنّ الحوار الذي سيرافق هذا التواصل من شأنه في الدرجة الأولى أن يرفع ذلك الوهم المكرس في عقول الكثيرين من النخب الجامعية بأنّ هناك تناقضاً بين الفكر الديني والفكر العلمي الحديث.
فكثير ـ حتى من النخب المثقفة ـ ما زال يظنّ ويعتقد أنّ الدين يمارس منهجاً في تفسير الطبيعة والظواهر الفيزيائية والكيميائيّة والفلكيّة بتصوّرات موروثة وخرافية، ولا يدرك هذا البعض أنّ الأسئلة التي يجيب عليها الدين ليست هي الأسئلة المطروحة أمام العلم، وأنّ الدّين ليس من دوره أن يقدّم تفسيراً علمياً لظواهر الكون، بل ترك المجال في ذلك للعقل الإنساني، وأناط به مسؤولية التأمل والبحث والاستنتاج وأنّ الدين يبارك إنجازات العلم وسعيه في ميادين المعرفة، أما الدين فإنّه يجيب عن أسئلة الغيب، التي لا يدّعي العلم أنّها من اختصاصه.
فالوحي السماوي هو كتاب هداية وليس كتاباً مختصاً في علم من العلوم أو في العلوم كلها، ولا يوجد في معطيات العلم ما يتناقض مع الحقائق التي يتكلّم عنها الوحي.

اقرأ أيضاً: انتشار الحوزات العلمية النسائيّة

لقد آن الأوان لكي تنتهي أسطورة التعارض بين الدّين والعلم، فإذا كانت الأجيال السابقة، وقبل حركة النهضة العلميّة التي بدأت في القرون المتوسطة كان الدين في نظر الكهنة وفي نظر الناس مسؤولاً عن تفسير الظواهر الطبيعية كالبرق والرّعد والزلازل وغيرها، والحقّ أنّ الدين ليس من اختصاصه أن يفسر هذه الظواهر بل فتح للإنسان باب المعرفة وحثّه على التأمّل والبحث حتى وصل الإنسان إلى المناهج العلميّة التي تفسّر هذه الظواهر.
ومنها كرويّة الأرض ودورانها حول الشّمس، وأنها ليست مركز الكون، كما كانت الكنيسة تعلّم ذلك وتعتقده، الأمر الذي أدى إلى صدام بين المؤسسة الدينيّة وبين اكتشافات العلم، وهذا الاصطدام هو مسؤولية المؤسسة الدينيّة من جهة، والنزعة العلمويّة لدى العلماء (علماء الطبيعة) في ذلك الوقت المبكر، ولم يعد مقبولاً أن يستمرّ الجدال الخاطئ في المفاضلة بين العلم والدين، لأنّ لكلّ مجاله واختصاصه، فهما لا يتناقضان بل يتكاملان.
ومن الملاحظ أنّ المرحلة التاريخيّة التي بدأ يبرز فيها دور العلم أصابت الكثيرين من النخب العلميّة بالغرور وظنّوا أنّ حاجة الإنسان إلى الدّين قد انتهت وأنّ العلم هو الكفيل بتحقيق كلّ ما يطمح إليه الإنسان.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج العاملي)

السابق
كتاب «قانون رقم 105 – قانون المفقودين والمخفيين قسراً»
التالي
علامات ومخاوف