مكاشفات إيمانية

السيد هاني فحص

الرحمن الرحيم:
في الحديث القدسي الذي يرويه المسلمون والنصارى ويتناقلونه مع شيء من الاختلاف الكمي والكيفي، أن نبي الله موسى عليه السلام مرّ براعٍ في البرية يناجي ربه يقول: “أين أنت لأقبّل يديك وأمسح قدميك؟ لأخدمك إذا مرضت وأبقى بقربك، فداء لك أهلي ومالي وروحي، غنمي ومعزي، اختر أي كبشاً من أكباشي لأذبحه لك وأطعمك إياه، ألا تذكر صياحي على قطيعي مرغباً له بالرعي أو الشرب أو النظم أو المشي (هيهاي وهيهوي)؟ فهو من أجلك”. ونهاه موسى عن ذلك لأن في كلامه كفراً، وإن استمر فسوف تأتي نار تحرق الدنيا ومن عليها، وعلّمه كيف يناجي ربه بلغة فلسفية تجريدية، وبعدما فارقه حاول الراعي أن يعمل كما علّمه موسى، فلم يجد كلاماً للنجوى، كأنه لم يجد ربه الذي يعرفه على طريقته، فأخذ يعاتب موسى عن بعد: ماذا فعلت بي؟ أحرقت روحي بنار الندم، أخرستني! فنادى الله موسى معاتباً: “ماذا فعلت بعبدي؟ دعه لي ودعني له، أنا بعثتك للوصل لا للفصل، لقد فصلته عني، وأنا أنظر إلى الداخل والحال لا إلى الخارج والقال”.
(هذا الجزء من الحديث نظمه جلال الدين الرومي (مولوي) شعراً بالفارسية وأداه على السنتور المنشد الإيراني المعروف شجريان).

اقرأ أيضاً: في الوحدة الطهارة والسلامة

حاولت أن أفهم هذا الحديث علمياً، فقلت: إن علم الراعي قد لا يساوي واحداً من المليون من علم موسى، وعلم الراعي بالنسبة إلى علم الله هو صفر على اللانهاية، وعلم موسى كذلك بالنسبة إلى علم الله، إذن أمام علم الله يتساوى الراعي والنبي، لأن علم النبي بشري محدود مهما اتسعت أو علت مساحته ونسبته، وعلم الله مطلق.. وهكذا الإرادة والمحبة والغضب والرضا.. والرحمة، رحمة الأنبياء والرسل والصلحاء والقديسين وسائر الناس، تتساوى في ضآلتها مهما تكن عظيمة وراقية أمام رحمة الله، الذيوسعت رحمته كل شيء.. وأول رحماته خلقه الخلق ومنتهاها غفران ذنوبهم (لا يؤوده ذنب) وهو التواب الرحيم، وهو الرحمن الذي تعمّ رحمته الخاطئين، يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل.. “وويل للمقنّطين” أي الذين يقنطون الناس من رحمة الله، كما في كلام الإمام جعفر الصادق (ع).. ويقول زين العابدين (ع): “إن بعض الناس يدعون أخوانهم إلى الجنة ويزينوها لهم ولو كانت كما الدنيا في أيديهم لما تخلوا لهم عن شبر واحد منها “.

مع الله (من شهاب الدين السهروردي)
“الحقيقة شمس واحدة، لا تتعدد بتعدد مظاهرها من البروج، المدينة واحدة، والدروب كثيرة، والطرق غير يسيرة، صمْ عن الشهوات صوماً ينقطع باستهلال هلال موتك، وورود عيدك بقدومك على مبدئك ومعيدك، صلّ لربك والليل مظلم فيسترهبك بتحيير حواسك، ويخوفك بهمس أنفاسك، فيلزمك حينئذ الالتجاء إلى نور الأنوار، قف على باب الملكوت وقل : يا قيوم الملكوت، الظلام أحاط بي، وحيّات الهوى قصدتني، وعقارب الدنيا لسعتني، وتماسيح الشهوات لدغتني وتركتني بين خصومي غريباً، يا أرحم عليّ من أبويّ، انقذني وخلصني من سخطك، سبحانك رب الجبروت، أنت سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، أذقني حلاوة أنوارك، أهّلني لمعرفة أسرارك، يا من قذف نوره في هويات السابقين، وتجلى بجلاله على أرواح السائرين، وانطمس في عظمته ألباب الناظرين، اجعلني من المشتاقين إليك، العالمين بلطائفك، يا رب العجائب وصاحب العظائم، ومبدع الماهيات وموجود الإنيات ومنزل البركات ومظهر الخيرات.. إنك أنت الحي القيوم، ذو الحول العظيم، والأبدي المتين، الغفور الرحيم”.

سؤال:
هل يمكن أن يتوقع أحد أن يصل الواحد منا أو كلنا بالإيمان والتوحيد والتوحد والشفافية إلى حد أن يدخل الواحد منا إلى جماعته الدينية أو رعيته في الجامع أو البيعة ليعلّم الناس دينهم، ويكتشف في نهاية التعليم أن من بين الحضور فرداً أو أفراداً من دين آخر أو مذهب آخر أو جماعة أخرى، ولا يشعر بالندم أو الحرج؟ لا يجد نفسه مضطراً للاعتذار عن شيء قاله؟ هل يستطيع الكاهن أو الشيخ وهو على منبره أن يكمل عظته أو تعليمه من دون تحويل أو قطع للسياق عندما يشاهد فرداً أو أفراداً مختلفين وقد فاجؤوه بالدخول عليه وجلسوا ليسمعوا؟ هل يمكن توسيع مساحة المشاعات في المعرفة الدينية؟

اختبار:
في أحد أيامنا في طهران قالت زوجتي: فلانة تريد ألف تومان ديْناً وأنا معي ثلاثة آلاف ولكني في آخر أيام الشهر، قلت أعطيها ألفين هبة، تهللت زوجتي، وأنا أهمّ بالخروج في طريقي إلى قم للقيام بعملي الثقافي والتعليمي لمدة يومين أسبوعياً. زرت في قم صديقاً عاتبني لأني رفضت عشرة آلاف تومان هدية منه لشهر رمضان القادم، وقال: لم يكن ذلك مني، لقد أحرجتني مع الرجل، وكان الرجل الذي أرسل لي المال مرجعاً كبير القلب. وفي تقاليد الحوزة أن لا شيء يبرر ردّ هدية المرجع. فاستعدت العشرة . ولدى عودتي عرجت في طهران على صديق آخر فقال: لك عندي خمسة آلاف تومان مكافأة على بحث لم أكن أتوقع عليه أجرة، وقبل خروجي جاء صديق ثالث وقال: لك بذمتي ثلاثة آلاف لأني أخطأت الحساب معك، حملت المال إلى منزلي وأنا أستعيد الآية الكريمة {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له}. والله لا يقترض، الإنسان هو الذي يقرض ويقترض والله يفي.. وإذا ما افتقدنا هذه الرواسخ في سلوكنا من الرحم إلى الجيرة إلى العونة إلى المسامحة إلى المصالحة والنسيان، فماذا يتبقى لنا؟ هل تكفينا السياسة أو غيرها.. أليس هذا معنى من معاني الغيب من دون شطط ومن دون اعتداء على الأسباب الطبيعية للحوادث؟

اقرأ أيضاً: هاني فحص: وُلدت الى جانب شتلة التبغ وراديكاليتي حصنتني من خيانات كثيرة

دعاء:
يا رب.. وهل أوصيت أباً بابنه كما أوصيت الأنبياء بالآباء؟ أعن حاجة الآباء إلى الأبناء أو حاجة الأبناء إلى الآباء؟ أليس لأن محبة الأب للابن مضمونة ما عدا الشذاذ من المرضى بأمراض لا بُرء منها ككراهية الذات التي تتجلى كرهاً دميماً للآخر.. مهما كان قريباً من الرحم.. وكأنهم يأتون من غير رحم، ما يفسر عدم شعورهم بجمال الرحمة؟ فكيف بخالق الآباء ومكوّن الأبناء، ومَن كل الخلق عياله؟ أليس لأن الأبوة حب مطلق، وأنت المطلق؟ أما أنا.. فأنا المقيد المحبوس في جسدي وذنبي.. فأعتقني.. تطمعني رحمتك في مغفرتك.. فلا تخيب رجائي يا رجائي.

(من كتاب “في وصف الحب والحرب”)

السابق
المحكمة الخاصّة لرجال الدين
التالي
بن سلمان: المرأة السعودية غير مجبرة على ارتداء غطاء رأس أو عباءة سوداء