إلى مريم العذراء

لسيّدةِ الأحزان وسيّدةِ الأفراح، وثوبِ الكونِ الأزرق، وجنّةِ الأمومة…
للرَسولةِ والرفيقةِ والمليكةِ والمصطفاةِ والجميلةِ والعذراءِ والبنفسجةِ والأيقونةِ والأرزةِ السماويّة…
أقول:
هاءنذا أعترف أمامكِ بأنّ كلماتي عاجزةٌ عن تمجيدكِ والانضمام الى ثَنيّاتِ روحك والدنوّ من مدائنكِ البيضاء والتقاطِ خيوطِ النّور في تجلّياتك والركوعِ على تراب لبنان الذي لامستِهِ وباركتِهِ وأطلقتِ على أَديمهِ أوّلَ طقسٍ من طقوس الخمر المقدّسة وأوّلَ علامةٍ من علامات الألوهة.
وأقول:
رجوتُكِ خذي بيدي و”احلُلي عقدةً من لساني” واكتبي أنتِ يا سيّدتي على بعضٍ من وريقات روحك وانشري نُسيماتِكِ في كلّ صوبٍ وفي كلِّ قلب.

لا تَصُدّيني!.
ألستِ أنتِ من كنتُ أفيئُ إلى نَعمائها في الشدائد وأذكر اسمها عند كلّ حلٍّ وترحال، وهبوبِ ريحٍ وغيابِ حبيب، واجتيازِ محنةٍ وترقّبِ نجمةِ صبح… ومَن كنتُ أكلّمها بالصلاةِ الصّامتة ونشوات التأمّل ونُشدان البهاءِ الكُليّ؟
ألستِ أنتِ مَنْ كنتُ أَلْثُمُ حجارةَ كنيستها جيئةً وذَهاباً في دروبِ الرّيف وأضمّ أيقونتها إلى صدري…ومَن لا أُغمض جفنيّ كلّ ليلة إلّا وأنا أتمتم: يا عذراء… ومن قلتُ لمن فاجأني بالسؤال يوماً –إذا حُكم عليكَ بالنفي في جزيرةٍ معزولة فما الرموز الثلاثة المفضّلة التي تحملها معك_ فأجبت: الأول أيقونةُ العذراء، والثاني مِن ذكرى الأحبّة: صورة عائلتي الصغرى ومؤلّفات والدي، والثالث شِلحُ أرزةٍ أو حفنةٌ من ترابِ لبنان.
ألستِ أنتِ من كنتُ أُرتّلُ لها مع المرتّلين، زمانَ كنتُ يافعاً وغَضَّ السّريرةِ وصديقاً لفلذة كبدك: “حُبّكِ يا مريم غايةُ المُنى”… “ويا مريمُ البِكرُ فُقتِ الشمسَ والقمرا”… و”مجدُ مريم يتعظّم في المشارق والغروب”… وكنتُ أشعُرُ أنَّ العَليَّ يمدّني بدفقاتٍ من العشقِ النوراني ومن رقراق نهره العظيم؟
وأُرتِّل : “إليكِ الوردُ يا مريم يُهدى من أيادينا”… وكانت تحلو لي تلاوتُها وفي يدي ضُمَّةُ زهرٍ جمعتُها من شقوقِ الصخر في سفح صنّين أو من واحدةٍ عزيزةٍ من الأكمات… عنيتُ أكمةَ “ضهر الحصين” في بسكنتا حينَ كانت متعدّدة الأغراضِ والمنافع:
فهناك تلاقى مُتحابّون يوم كانت منابضُ القلوب وألوان الوجنات مقياساً للشّغف.
وهناك أُهرِقتْ محابر واضطّرمت “مجامر” ونظم أعزّةٌ غانميّون أجمل قصائدهم.
وهناك كان فارسُكِ الصغير هذا يُحرّكُ ما سكنَ من الأنبتة البريّة، وينشق الفوحَةَ بعد الفوحة، ويلمّ الزهيرات تلو الزهيرات ليضعها في أقرب مزارٍ مريمي أو ليجعلَ عطرها وألوانها وبَتَلاتها وقاماتِها النحيلة وخدودها الطريئة ترنّم مع المرنّمين: إليكِ الوردُ يا مريمْ يُهدى من أيادينا.

خُذي بعضاً من وُرَيقاتِ روحِكِ واكتبي عنه يا مريم…
كانت الأريافُ والضفاف ملعباً لولدي … والبراري والآفاقُ والسماوات والطرقُ المتّصلةُ بالأبعد والأعمق وبدخيلاء الأنفس وبالقلوب… كانت مسرحاً لعينيه. آخى الغابَ والغارَ والطيرَ ورشّ القمحَ على المفارق. افترشَ بساطَ المروج واتّكأ على جذوع الصنوبر وعلى أضلاع الصخور. لم يقيّده سلطان ولا أغراه تاج. جالَ في الدساكر وصعد الى التلال وصلّى في ظلال الزيتون ومشى في كلّ سبيل ومدَّ يديه الضارعتين الى الله كسحابتين… تبوّأ أعلى ذرى الحرّية حينَ تذوّق نعمة الحياة، وفي هُنيهتي الصَّلب والقيامة.
وكان ولَدي رحمةً ولياناً وسكونَ نفسٍ ورحاباتِ صدر ومُشتكىً وراياتٍ بيضاء، وصيّادين وحكماءَ وزَهَدَةً وحَمَلَةَ غرابيل ضوئيّة. وكان إذا مرّ يتحوّل الجَدْبُ “أنهراً وجنائن”، وتعودُ السّيوف الى أغمادها،وتفترُّ الثغور، وتُلجَمُ الغرائز، ويسقُطُ الجبروت،وتنتشر الرحمات… وتروي المكانَ ديمٌ تَهِلُّ من عَلُ، ويحلّ السّلامُ في القلوب.
وكان ولدي يسوع،فتى الألوهة، إذا ناداه مُنادٍ من جهاتِ جبل الأطياب، الحبيبِ لبنان، يَقطَعُ الرُبِيَّ بعد الرُبِيّ، من أواسط الجليل حتى أعاليه، ويَشُمّ التراب ويُبارك، ويكسِرُ أرغفةً ويوزّع، ويقرأ الطبيعةَ ويمجّد خالقها، ويعرفُ أنّ من سيَّج هذه البقاع بالأزرقِ البحريّ، والأبيض الصخري، والأخضر الدّهري، لن يتركها لأنّها أهراءُ حق، وحديقةُ إيمان… ثم يروحُ يُبشّر مع مختاريه… من أرضِ هذا المشرق، وأرضِ لبنان، مشرقِ المشرق، ودرّتِهِ وجنائنِهِ الغنّاء…
***

لبنانُ، يا سيّدتي، يحدوهُ شوقٌ الى الحريّة… وإلى السلام…وإلى الايمان… وإلى أن يعودَ حقلاً تُبذَرُ فيه الرسالات، وتطأهُ الأقدام المقدّسة…
أين الماءةُ التي صلّى عليها النبيّون؟ أين السّكينةُ والمصافحةُ والغفران؟ أين النسائم الطليقة وخيوط الفجر التي تتوزّع كيفما تشاء؟ ألم تعُد هذه الديار، يا مريمُ يا أمّي، أمانةً في يديك الطّاهرتين، وحلماً جميلاً في بالِ فتَاكِ؟
” ويا سيّدتي …يا أمّ يسوع…و يا حبيبةَ أمّي !
ما مرّةً خطرتِ الأمومة ببالي إلّا وكنتِ علامتها الخالدة وسرّها العظيم:
“أمّي ذكرتُكِ تضرعينَ الى النقيَّةِ
تضرعين الى النقيّةِ
تضرعينْ:
يا مريمُ الأمُّ اقبلي منه الزّهيراتِ البتولهْ
يا مريمُ الأمُّ احمليهِ وأعطني طفلَ المغارةِ كي أضُمَّ وكي تضمّي.
في كلِّ أمٍّ مريمٌ تشتاقُ أن يأتي…
ومريَمُ كلّما طفلٌ أتى
تشتاقُ أن تبقى الأمينَةَ والرّسولهْ
قرأتْ ألوهتَهُ
وتابَعَتِ القِراءةَ في الطّفولَهْ.

 

إقرأ أيضاً: تدشين مزار للسيدة العذراء في جدرا

السابق
إلى الحاج حسن: من هي القوى القابضة على السلطة في البقاع؟!
التالي
السعودية تنهي تحقيقات الفساد وتستعيد 106 مليارات دولار