الثورة السودانية ومواكب البهجة والحرية: تحية لروزا لوكسمبررغ في الذكرى المئوية لاغتيالها

السودان

عندما تتحول المظاهرات والاحتجاجات و”المواكب”، على الرغم من القمع الاعتقالات والدم المسفوك، إلى كرنفالات عامة للفرح والبهجة والتآخي والتضامن والتعاون والغناء والأناشيد والنشوة والرقص فذلك دليل لا ريب فيه على أن المتظاهرين والمحتجين يعيشون لحظات ثورية بامتياز، وأن ما يقومون به هو ثورة أصيلة عميقة.

الكرنفال هذا هو ما يعيشه السودان ومدنه في نهاراته وأمسياته ولياليه رغما عن بطش البشيرو ميليشياته واستباحتهم لدماء السودانيين. ونرى ملامح ذلك في الكثير من المشاهد المصورة التي يبثها المنتفضون عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كما نتلمسه بوضوح أيضا في وصفهم لما استجد في هيئة السودانيين ومشهدهم وعلاقاتهم اليومية من فرح وبهجة وحرارة وإخاء وتضامن، يعبّرون عنها في لقاءاتهم العابرة في الشوارع والامكنة العامة وسائل المواصلات، وفي مبادراتهم العفوية للتضامن مع المتظاهرين ومع من تلاحقهم القوى الأمنية في الشوارع لاعتقالهم، كما تعبر عنها وجوههم وعيونهم المبتسمة الطافحة ببريق الأمل وباحاسيس الغبطة والثقة والكرامة المستعادة. حتى السجون التي زج فيها البشير آلاف المعتقلات والمعتقلين، أصبحت نهاراتها ولياليها تضج بحداء الشابات والشبان وأناشيدهم وهتافاتهم وأغانيهم.

اقرأ أيضاً: أميركا تطلق يد إسرائيل في سوريا عشية مؤتمر بولندا

وهذا الكرنفال من الفرح والبهجة العارمتين هو أيضاً ما عاشه المصريون في الأيام المجيدة لثورة 25 يناير وهو ما بقيت ذاكرتهم تخبئه ككنز وتحرص عليه أملاً محفوراً في القلب ضد زمن العتمة والكآبة. وهو كذلك ما عاشه التونسيون واليمنيون في أيامهم الثورية المشرقة. وربما تكون الأشهر الأولى من ثورة السوريين من أعظم كرنفالات الفرح والرقص والغناء والإنشاد الثورية على الرغم من القتل والتعذيب والتنكيل الهائل الذي سرعان ما شرع الأسد وعصاباته يمارسونه على نطاق واسعٍ منذ الأيام الأولى للثورة. فمن يسطيع أن ينسى ساحة العاصي في حماة، حيث أمضى عشرات آلاف السوريين نهاراتهم ولياليهم يرقصون ويدبكون ويعنون ويهزجون وينشدون على إيقاعات حريتهم المستعادة وتطهّر أرواحهم وأجسادهم وأصواتهم من الاستبداد الأسدي الرهيب.
فالثورة، في حد ذاتها، في يومياتها وفي تدفق أمواجها المتسارع، وبمعزل عن مألاتها ونتائجها، هي نهوض للحياة العامة من سباتها ومواتها، واكتشاف واستعادة للحرية السليبة أو المفقودة. وهذا الفيض العمومي للفرح والبهجة العارمة هو تحديداً ما يصاحب الاكتشاف الفجائي للحرية والتدرب الجماعي على ممارستها بعد تراكم مزمن لقيود العسف والخوف والمهانة. ومن هنا ذلك الإحساس بخروج الزمن من سباته وركوده، وتسارعه على نحو هائل ومفاجئ وغير مسبوق. وكأنما الثورة تبعث للتو في أجساد من ينخرطون فيها وفي أصواتهم ووجوههم روحاً جديدة.

هكذا فإن كرنفال البهجة هذا هو كرنفال الممارسة الجماعية للحياة العامة وللحرية العامة المستعادة. فالحرية هي ما تنشد تعلمه واستعادته وممارسته أولاً وقبل أي شيئ آخر كل ثورة، بما في ذلك الثورات التي تغرس جذورها في الاستغلال الاقتصادي. ولذلك كان كوندورسيه، المفكر الفرنسي لعصر الأنوار، يردد أنه ليس من ثورة تستحق هذه التسمية إن لم تكن تهدف إلى الحرية. وهذا ما كانت تركز علية المفكرة والقائدة الثورية الاشتراكية روزا لوكسمبورغ التي كانت ترى أن الثورة، قبل أن تكون وسيلة لاسقاط النظام ولاستلام السلطة، تهدف أولاً وقبل كل شيئ إلى استعادة العمال والفلاحين لحريتهم ولمبادرتهم ولإرادتهم. ذلك أن الثورة، كما كانت تراها روزا لوكسنبورغ، هي خروج الجماهير واقتحامها لمسرح الحياة السياسية العامة، وانتفاضها على “كل أشكال السيطرة” بما في في ذلك “ظروف الاستعباد الاقتصادي”. فلا خروج من “الاستعباد الاقتصادي” من دون التمرد على كل أشكال “الطاعة العمياء”، و”اجتثاث روح الانضباط الصاغر” التي زرعها الاستبداد والسيطرة الرأسمالية. والثورة هي ما تستعيد الجماهير عبرها الإرادة الحرّة وتتدرب خلالها على ممارسة حريتها وحياتها السياسية العامة وحركتها الحية. وهذه الحرية المستعادة واستعادة المبادرة السياسية وحيوية الحياة السياسية العامة هي ما يفتح الباب أمام هيمنة الجماهير الشعبية الواسعة. “فكل ما هو تنويري ومفيد ومطهر في الحياة السياسية يعود إلى الحرية وممارستها”. وتشدد روزا لوكسمبورغ أن اكتشاف الحرية وممارستها خلال الثورة “يبعث إحساساً لا مثيل له بالسعادة العامة” وتعطي على ذلك مثال الثورة الروسية قي 1905: ” هكذا تحولت الإمبراطورية القيصرية الجنوبية بأكملها في صيف 1905 إلى جمهورية ثورية عمالية غريبة. العناقات الأخوية، صيحات الحماسة والنشوة، أغاني الحرية ، الضحك البهيج، والغبطة، وعبارات الفرح: كان ذلك كله أشبه بحفلة موسيقية كاملة يؤديها هذا الحشد من آلاف الناس الذين كانوا يجولون المدينة ذهاباُ وإياباً من الصباح إلى المساء. كان يسود مناخ من من النشوة؛ وكان يمكن للمرء أن يظن بأن حياة جديدة أفضل قد بدأت على الأرض.”

وتتلازم ممارسة الحرية المستعادة هذه مع تسارع في هائل اكتساب الوعي. فالثورة هي أعظم وأسرع “مدرسة للحياة العامة” (روزا لوكسمبورغ). إنها، كما يصف الكاتب السوداني حاتم الياس الثورة السودانية اليوم، “تدفع أمامها بحراً هادراً من الوعي,” وفي زمنها المتدفق هذا سرعان ما “يشفى الشعب من أوهامه”، ويجتاز الوعي الشعبي في أيام وساعات مسافات كان يبدو أن المجتمعات تحتاج إلى عقود لقطعها. وتسقط جميع الأقنعةعن السلطة وتتعرى الزمر الحاكمة من ألبستها الأيديوجية والرمزية فلا يبقى لها إلا سلاح العنف العاري.

لكن، ليس العنف ولا الدم ما يفعل ذلك (كما يحلو للكثيرين أن يقولوا)، بل على العكس، فالطبيعة السلمية للتمرد والعصيان والتظاهر والثورة هي ما يشكّل المناخ المثالي الذي يمكّن الجماهير العريضة من كسر قيودها، واقتحام مسرح الحياة العامة واكتساب وممارسة حريتها وارادتها الجماعية. ولذلك، لم تكن روزا لوكسمبورغ، الحريصة على مشاركة الحركة الجماهيرية وحراكها المباشر المستقل كشرط لتحررها – لم تكن تدعو إلى العنف أو ترى فيه وسيلة من وسائل الثورة. فالثورة كما كانت تردد، “ليست حمام دم، إنها شيئ آخر مختلف”. والعنف هو ما تتوسل به السلطة لقمع الثورة وإغراقها بالدم وتحويلها إلى صراع عنيف مسلح، بل إلى إرهاب تمتلك هي غالباُ قواعده ولغته وأدواته، ممّا يؤدي إلى استبعاد أوسع القطاعات الشعبية من ميادين الثورة بل من الحياة السياسية العامة التي سرعان ما تموت تحت وطأة العنف والعسكرة. والحق أن اكثر ما تكرهه الأنظمة الاستبدادية وتخاف منه هي المظاهرات والانتفاضات السلمية التي تخرج فيها الجماهير من صمتها الكئيب وتستعيد خلالها حريتها وصوتها وبهجتها. لذا، على سبيل المثال، كان انتقام الأسد من جماهير ساحة العاصي في حماة مروعاً في عنفه ووحشيته. ولم يهدأ بال الأسد في حماة إلا عندما تمكنت عصاباته من إلقاء القبض على القاشوش، الذي كان يشعلل ساحة العاصي بأهزوجته الثورية، فذبحوه وانتزعوا حنجرته قبل أن يرموا جثته في النهر.
وفي السودان، بعدما حاول البسشير وفشل في استعمال سلاح عنصريته وفي إلباس الثورة ثوباً إرهابياً “درافورياُ”، يسعى إلى دفع الثورة تحو العنف بل والسلاح. ومن الواضح أنه يحاول يائساً استنساخ ممارسات الأسد، لدرجة دفعت الكاتب السوداني حمور زيادة إلى القول بأن البشير لم يبق أمامه سوى تغيير اسم الخرطوم وتسميتها دمشق.

أما “الثوريون” الذين يرون إلى الثورة بصفتها ظاهرة عنيفة بجوهرها ، فهم غالباً من الذين يريدون التوسل بها لتحقيق أحلامهم السلطوية الاستبدادية. وهم يسعون دوماُ إلى إلباسها لباساً عسكرياً، أو كما صرنا نقول اليوم بعد تجربة الثورة السورية المريرة، إلى عسكرتها. إنهم يسعون في نهاية المطاف إلى إعادة إنتاج نفس بنية السيطرة على الجماهير وانضباطها وخضوعها لسلطة مركزية. فما يريدونه من الثورة هو جلب الجماهير العريضة للحظة مؤقتة إلى ميدان القتال للتحضير لهجوم مفاجئ تنظمه وتقوده أقلية صغيرة. أو إذا ما استعدنا عبارات روزا لوكسمبورغ، إنهم يريدون فقط “نقل عصا المايسترو من يد البرجوازية” أو المستبد إلى يد “لجنة متآمرين ذات أنا متضخمة” و”إعلان نفسهم سلطة مطلقة باسم إرادة الشعب المغيّبة”. وبعد ذلك يعملون على إعادة الجماهير إلى حال من “انعدام الإرادة والفكر” وإلى تحويلها إلى “كتلة لحمية كثيرة الأرجل والأيدي تؤدي دورها بحركات ميكانيكية وفقا لعصا المايسترو”. لكن ذلك “البهلوان الماهر” صاحب الأنا المتضخمة، “يتغافل أن “الذات” الوحيدة المخولة اليوم بدور القيادة هي “الأنا” الجماعية للطبقة العاملة التي تصرّ على امتلاكها الحق في ارتكاب الأخطاء حتى تتعلم جدلية التاريخ بنفسها. وأخيراً ، دعونا نقولها بصراحة: إن الأخطاء التي ترتكبتها حركة عمالية ثورية حقاً هي، تاريخياً، أكثر خصوبة وأكثر قيمة من عصمة أفضل “لجنة مركزية”. (روزا لوكسمبورغ)

أليست الثورة السودانية في إصرارها على طابعها السلمي وعلى إشراك أوسع القطاعات الشعبية في استعادة الحرية وممارستها: أليست في مواكب وكرنفالات الفرح والبهجة والحرية التي تشترك فيها كل المدن السودانية أجمل تحيّة للمفكرة الثورية الاشتراكية روزا لوكسمبورغ في الذكرى المئوية لاغتيالها ورمي جثتها في النهر.

السابق
مَن يحْرم لبنان منظومةَ دفاعٍ جوي؟
التالي
شتاء الخليج موسيقى عربية وعالمية!