إيران بين صورتين

حسن فحص

ليس مصادفة أن تأتي عودة الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد للمشاركة في جلسات مجمع تشخيص مصلحة النظام، بالتزامن مع تخصيص هذه الجلسة لمناقشة موضوع انضمام إيران لمعاهدة مكافحة الجرائم المالية FATF واتفاقية بالريمو لمكافحة تمويل الارهاب، بعد أن أحليت إلى هذا المجلس للفصل في الخلاف الذي نشب بين مجلس الشورى (البرلمان) ومجلس صيانة الدستور، إذ أقرها الأول، وأحالها للثاني لإبداء الرأي حول تطابقها مع الدستور والشرع، وطلب صيانة الدستور إدخال تعديلات عليها، الأمر الذي امتنع عنه البرلمان، فكان لا بد للمجمع أن يمارس دور الحكم بينهما.

عودة أحمدي نجاد عن المقاطعة، وإن كانت في بدايتها قرارا خارجا عن إرادته، ومن جهات أعلى منه، كان هدفه توجيه رسالة له بإمكانية محاصرته ومنعه من الاستمرار في الحياة السياسية، خاصة بعد عصيانه «لتوجيهات» مرشد النظام، بالامتناع عن الترشح في السباق الرئاسي، وانتهى بعدم تأييد صلاحته للمشاركة من قبل مجلس صيانة الدستور، فضلا عن إبدائه مواقف تتعارض مع بعض الآراء التي طرحها المرشد منذ وصول حسن روحاني إلى سدة الرئاسة، وصولا إلى الوقوف بوجه السلطة القضائية وإرادة النظام في محاكمة واعتقال أبرز مساعديه والمقربين منه مثل، اسفنديار رحيم مشائي الذي رشحه للانتخابات الرئاسية عام 2013 وحميد بقائي الذي رشحه أيضا للانتخابات الرئاسية الاخيرة. اختيار أحمدي نجاد العودة للمشاركة مع تولي آية الله صادق آملي لاريجاني رئاسة مجمع التشخيص، يحمل إمكانية وجود نوايا لدى أحمدي نجاد بنقل المواجهة إلى داخل هذا المجمع: مع رئيس المجمع الذي ما زال يشغل أيضا منصب رئيس السلطة القضائية حاليا بانتظار تعيين البديل له من قبل المرشد، خصوصا أن أحمدي نجاد لم يتردد بتوجيه الاتهامات والانتقادات لصادق لاريجاني في القضاء على مساعديه قضائيا، والتلويح له بإمكانية أن يطاله القضاء في قضية «تهديد الأمن القومي والاستقرار الداخلي وإضعاف النظام»، من خلال التيار المشاغب الذي تخفى وراءه، من أجل تصويب النظام وقيادته، وعرقلة عمل الحكومة في كل المجالات، باعتماد سياسة التشكيك وتحميلها مسؤولية الفشل الاقتصادي الذي تعاني منه إيران. وهو التيار الذي يطلق عليه من قبل قيادة النظام والمرشد بتيار «الفتنة».

اقرأ أيضاً: الحلم الوردي لاستعادة لبنان

وحالة التنافر بين أحمدي نجاد مع عائلة لاريجاني، لا تقتصر على ما يتعلق بمحاكمة مساعديه وفريقه المقرب، بل تعود ايضا إلى مرحلة توليه رئاسة الجمهورية، عندما دخل في مواجهة علنية، لم تلتزم أي حدود أخلاقية أو سياسية مع رئيس البرلمان علي لاريجاني، واتهامه مع أشقائه ومنهم، رئيس السلطة القضائية بالفساد المالي، وتلقي الرشاوى، وتعزيز سلطتهم ومصالحهم على حساب مصالح الوطن والمواطنين. وهي معركة أجبرت، حينها، مرشد النظام على التدخل مباشرة لقطع الطريق على تأثيراتها السلبية، ومنع استمرارها وتفاقمها، حتى لا تتحول إلى حالة يمكن أن يلجأ أحمدي نجاد إلى تكرارها مع قيادات أخرى، وقد أثمر تدخل المرشد حينها بضبط ردود أفعال «آل لاريجاني»، فيما استمر أحمدي نجاد في فتح معارك معهم، ومع آخرين لكن بوتيرة أقل. وعلى الرغم من كون المرحلة الحالية تحمل الكثير من المؤشرات على توسع نفوذ الجناح المتشدد في التيار المحافظ، الذي شكل الداعم والرافعة لأحمدي نجاد خلال دورتي رئاسته للجمهورية، وبالتالي قد لا تكون هناك حاجة لدور يلعبه أحمدي نجاد في هذه المرحلة، وممارسة دور رأس الحربة في محاصرة الحكومة وسياساتها، إلا أن محاولات أحمدي نجاد وضع نفسه في مواجهة المرشد والتصويب على بعض القرارات التي تصدر عنه، دفع الكثير من هذه الشخصيات إلى الابتعاد عنه وتفضيل الحفاظ على مصالحها والابتعاد عن النار التي يسعى أحمدي نجاد إلى إشعالها، حتى لا يصيبهم شرر منها.

من هنا قد يكون مصدر هذه الابتسامة التي تحمل كما «لا بأس به من الخبث» التي ارتسمت على وجه أحمدي نجاد بعودته إلى المشاركة بجلسات المجمع، وعلامة النصر التي رفعها، والتي تحمل كل هذه الأبعاد، إضافة إلى تمسكه بالبعد الشعبوي في شخصيته، الذي يعتبر أبرز ما يميزه وميز مرحلته وما بعده من نشاطات سياسية، هو محاولة إعلانه أنه على استعداد للاستمرار في خوض المعركة وحيدا، وهذه المرة من داخل آخر المواقع الرسمية التي تبقت له، أو أنه قدم الكثير من التنازلات والتعهدات بعدم إثارة الفوضى والتخلي عن المسار الذي دخل فيه منذ نحو 6 سنوات، وتحول إلى «مطيع» لقرارات قيادات النظام ومواقفهم، أي أن يكون قد تم «تدجينه» ولجم طموحاته التي أحرجت النظام في الكثير من المواقف والأوقات.

مقابل صورة أحمدي نجاد، تبرز صورة وزير الخارجية محمد جواد ظريف، الذي دعي للمشاركة في هذه الجلسة انطلاقا من إدراج اتفاق FATF على جدول مناقشات الجلسة، يعلوها كم كبير من الوجوم والإحساس بالإحباط، وهي حالة لم تقتصر على ظريف في هذه الجلسة، بل سرت إلى ملامح سكرتير المجلس الاعلى للأمن القومي علي شمخاني، وأعضاء اخرين، خصوصا أن النقاشات حول الاتفاقية انتهت إلى عدم التصويت عليها وتحويلها إلى اللجان المختصة لإعادة دراستها، على الرغم من مرور نحو شهرين على استلام هذا المجلس لملف النزاع بين مجلسي البرلمان وصيانة الدستور. ولعل الوجوم على وجهي ظريف وشمخاني يعود إلى إدراكهما خطورة المرحلة التي تمر بها إيران ودقتها في التعامل مع تداعيات القرارت الأمريكية وعودة العقوبات والحصار الذي تفرضه واشنطن على كل محاولات إيران التملص من العقوبات، ودفعت ظريف قبل أسابيع لتفجير قنبلة بوجه المتشددين الرافضين لهذه الاتفاقية، عندما تحدث عن وجود عمليات تبييض أموال في النظام المالي الإيراني، وإن عدم انضمام إيران إلى هذه المعاهدة قد يؤدي إلى عودتها إلى اللائحة السوداء المالية، وبالتالي قد تعقد اي محاولة دولية لوضع آلية تعامل مالي مع إيران والالتفاف على العقوبات الامريكية. واستمرار معارضة هذا التيار لهذه الاتفاقية قد يطيح بكل الجهود التي يبذلها ظريف، من اجل فتح كوة في العقوبات من خلال الحوارات التي يخوضها مع فريقه، إن كان من الدول الاوروبية أو مع بعض دول الجوار لتعزيز التعاون التجاري والحفاظ على ما تبقى من علاقات اقتصادية تساعد إيران على اجتياز تداعيات العقوبات. الموقف السلبي من الاتفاقية في جلسة مجمع تشخيص مصلحة النظام لم ينتظر كثيرا ليخرج إلى العلن، اذ أعلن احد اعضائه، آية الله محسن مجتهد شبستري، أن الاتفاقية «عليها الكثير من الملاحظات لذلك لم يتم التصويت عليها.. وتمت إحالتها على اللجان المختصة في المجمع».

أما الملاحظات التي توقف عندها المجتمعون فتتعلق بعمومية المصاديق التي ينطبق عليها مفهوم المجرم، اذ لم تحدده المعاهدة، وهو بحد ذاته يعتبر إبهاما فيها، واضاف شبستري أن «من وجهة نظر إيران فإن داعش والقاعدة وجبهة النصرة وأمثالها مصداق المجرم، لكن قد يكون من وجهة نظر الاتفاقية اعتبار حزب الله والحشد الشعبي وحرس الثورة أيضا مجرمين، وهذا الأمر لن نقبل به، هذا ما يشكل أبرز وأكبر الإبهامات في الاتفاقية»، مشددا على أن «الجميع موافق على أساس المسألة في محاربة الإرهاب ومصاديق الجرائم، ولكن الاشكالية في مصداقها وعليه يجب أن نرى هل يقبلون بالشروط التي نضعها، فنحن لدينا شروط يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، واذا تم قبولها عندها نوافق على هذه الاتفاقية».

قد يكون الوجوم الذي ارتسم على وجه ظريف مرده إلى الصعوبات التي يجب أن يخوضها في حال دخل في مفاوضات مع المجتمع الدولي من أجل تعديل الاتفاقية، والأخذ بالملاحظات الإيرانية، خصوصا أن إيران والمجتمع الدولي على موعد في فبراير/شباط المقبل، مع اجتماع تحشد له واشنطن في وارسو لبحث سبل مواجهة نفوذ إيران في المنطقة وأذرعها الاقليمية. وقد تكون النقاشات والمواقف المعترضة على الاتفاقية هي التي تقف في خلفية ابتسامة أحمدي نجاد ورفعه شارة النصر. فهل ستعود لظريف ابتسامته التي انتجت الاتفاق النووي؟ أم ستتسع ابتسامة أحمدي نجاد؟

السابق
الحلم الوردي لاستعادة لبنان
التالي
انتشار الحوزات العلمية النسائيّة