إسمع يا دولة الرئيس (50): الوصية، مجدداً

الشيخ محمد علي الحاج
"إذا متَّ قبل أن تموت، فلن تموت عندما تموت".

وأنا على مشارف إنهاء هذه الرسائل المفتوحة، التي تمثل شقشقة شفافة وصادقة، في زمن كثر فيه المنافقون، وأصحاب الغايات الخاصة والرخيصة، يهمني أن أعاود التأكيد على وصيتي “وصية مودع” التي نشرتها منذ عدة سنوات، (في العام 2012)، بل هو تأكيد على زهدنا بهذه الحياة “الدنيا” انطلاقا من الوصية مجدداً.

دولة الرئيس

أستيقظ مع بزوغ كل فجر جديد مستغرباً كيف أنني ما زلتُ في الدنيا.. فأرتدي جبتي كمن يرتدي كفنه، واعتمر عمامتي وكأنها المرة الأخيرة قبل أن ينفصل رأسي عن جسدي، وأنتعل ما أنتعله في قَدَمَيّ قبل أن تدوس عالماً آخر كلنا سائرون بل ومسيّرون إليه، وأخرج من المنزل وكأنني لن أدخله ثانيةً.. اعتمادا على ما ورد في إحدى المرويات: “صلِّ صلاة مودِّع” فكانت حركاتي وسكناتي كلها بنفَس “المودِّع”.

كيف لا أعيش ذلك وحكام بلدنا في عصرنا الراهن هم شر حكام كوكب الأرض، لا ينتظر منهم خير، ولا يتوقع منهم إلا الإجرام والعمالة والنهب والنفاق..
لصوص بشكل رجال دولة، وقتلة يتحدثون عن الرحمة، مجرمون يتغنون بالإنسانية، ظالمون يجيدون لعب دور المُطَالِب بالعدالة، مختلسون يتظاهرون بالعفة..

أستاذ نبيه

لذلك، قررت الخروج على الظالمين؛ شاهراً قلمي، لابساً كفني، متكلا على الله، زاهداً فيما “عند الجميع”، راضياً بما قسّمه الله؛
فليس في الدنيا أهم من العزة والكرامة، ولا قيمة لمناصب يغدقها الثنائي على عديمي الشخصية والأخلاق.
أحرص أن أخرج من هذه الدنيا من دون التلوث بها، ومن دون أن أسجل أنني استهنت بعمامتي وثوبي..

الرئيس الحبيب

لا أود أن أكرر ما أوردته في وصيتي المنشورة، ولكن أشير بشكل مختصر لنقطتين، يحسن الإلتفات إليهما:
أولاً: إن الشيعة في لبنان فقدوا دورهم الوطني والأخلاقي المناط بهم.. ودخلوا في الكثير من المعارك المجانية، بل والعبثية، ولا أدنى جدوى منها، بشكل بعيد عن الحكمة..
ثانياً: حصلت هوة بين الشيعة وتاريخهم الثقافي والفكري، ولم نكن أوفياء لجهد الآباء والأجداد.. بل فرطنا في موروثنا المشرف.

كما ينبغي أن لا أتجاهل أمرين:

الأول: المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى

فبمعزل عن رأيي في ضرورة إلغاء المجلس الشيعي وأخواته من مؤسسات مليّة في لبنان، لكن لا يعقل أن تتحول هذه المؤسسة الرسمية لمجرد حسينية للنعي والنحيب والبكاء وإطعام الطعام في عاشوراء..!
الرئيس النبيه؛ بذل علماؤنا كل ما بوسعهم لوضع المجلس الشيعي على الخارطة السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية.. واليوم، في عهدكم، في “عصر التنمية والتحرير” نرى المجلس الشيعي وكراً لزمرة من السطحيين المتشددين الاستعراضيين، وهذا نتيجة طبيعة لوجود شخص كالشيخ عبد الأمير قبلان على رأسه، وهو المعروف بمستواه المحدود جدا، وتاليا فهذا عين ما تريدونه أنتم بالدقة.
فلا أتصور أن الثنائي الشيعي يريد مؤسسة بكل ما للكلمة من معنى، الثنائي لا يطمح لأكثر مما هو عليه الشيخ قبلان! وقبلان انعكاس واقعي يعبّر عن طموحكم، وعن إرادة الثنائي بشكل دقيق!

الثاني: علماء الدين الشيعة

وينبغي التطرق لموضوع رجال الدين الشيعة، وتدني مستواهم في “عهد الثنائي”.
ومعروف المكانة التي كانت لعلمائنا قبل تغلغل الحزبية لهذا الجسم، ما قزّم دور علماء الدين، وجعلهم منقادين للساسة، ويتحركون وفق الأجندات السياسية.. وهذا لم يكن من ذي قبل، بل كانت المسافة بين علماء الشيعة وسياسييهم واسعة جدا، وكنا نسمع آراء نقدية تجاه الساسة، كما كان رجال الدين لا يبخلون بنصائحهم وتوجيهاتهم للساسة، واليوم العكس، إذا لم نقل أن الساسة “يأمرون” الدينيين، ويهيمنون عليهم..

بالمحصلة تدنى مستوى رجال الدين لدرك سافل جدا، وكل المسؤولية تكمن في تسرب الحزبية للجسم العلمائي.
ليس من مصلحة أحد انتفاء دور رجال الدين، بل هذا ما سيكون له تداعيات وخيمة على الشيعة عموما، وعلى المسببين خصوصا، ولذا ليتكم تلتفتون لهذه النقطة المركزية، وتداركون ما يمكن تداركه، مع عدم إغفالنا لمسؤولية رجال الدين في هذا المقام، حيث إنهم ارتضوا لأنفسهم ما لا يليق بما يمثلون.. لكنني هنا أتوجه حصرا لدولتكم.

صدقني يا دولة الرئيس أننا نجيد التحدث مع الساسة أكثر من أولئك المعممين الجهلة الذين يسبحون بفلك الساسة؛ لكننا لا نسمح لأنفسنا أن نضرب تاريخنا وتراثنا وأدبيات جسمنا الديني!

ولأولئك الذين يلهثون خلف الساسة بغية ترتيب مصالحهم المالية أقول لهم: ليتكم تتدبرون أبعاد قول أمير المؤمنين علي: (طلبتُ العلم في الجوع، وطلبوه في الشبع، فما وجدوه) وهكذا أنتم، ليتكم تدركون أن معممي الرخاء والثراء ليسوا بعلماء بالعمق، ولا يمكن احتسابهم من أهل العلم الذين يمثلون الإمتداد الطبيعي التاريخي لعلماء الطائفة الذين تحلوا بالزهد والتواضع والإعراض عن الدنيا، هؤلاء لاينتسبون للسلف؛ وإن تشابه الزي فقط!

دولة الرئيس

تركز أدبياتنا الدينية على استقلالية طلبة العلوم الدينية وترفعهم عن العمل السياسي الضيق، ومنهج الحوزة العلمية الشيعية التقليدية قائم على نأي علماء الدين عن الانخراط في التنظيمات السياسية، حفاظاً على سمعة أهل العلم، واحتراماً لجهد السلف الصالح من علمائنا (رضوان الله عليهم) الذين أعرضوا عن مباشرة اليوميات السياسية..

وإن العادة الجارية في وقتنا الراهن ضمن وسطنا الديني الشيعي التي تتقبّل انخراط رجال الدين في الأحزاب السياسية، تمثّل انحرافا فاضحا عن منهج الحوزة العلمية، هذا الإنحراف بدأ جراء تأثر الحركات الإسلامية الشيعية بالحركات الإسلامية السنية، وتحديدا من تأثيرات “الإخوان المسلمين” في الوسط الشيعي.

النبيه الحبيب

المهم أن اتباع المنهج التقليدي يمثل وفاء لسلفنا الصالح، وبنفس الوقت هو سبب معاناة العلماء الذين يحترمون أنفسهم، كونهم لا ينخرطون بالقوى السياسية، وتاليا تفوتهم الكثير من الامتيازات.. وهذه الامتيازات شجعت “المعممين” للإلتحاق بالحزب وأمل!!
وللأسف بدل أن يبقى علماء الدين محافظين على ديدن السلف في الإعراض عن أصحاب المواقع والسلطة؛ فقد صرنا نراهم يتزاحمون على “السلاطين” والمتسلطين على رقاب الناس..!

اقرأ أيضاً: إسمع يا دولة الرئيس (49): لإلغاء مفاعيل العفو العام

الأستاذ الحبيب

وإن لم أبلغ من العمر عتياً.. لكنني عاشرتُ طبقةً من العلماء من الذين يحملون ثقافة السلف الصالح، ناهيك عن تربيتي وبيئتي الشخصية المفعمة بمفاهيم الأنفة والعزة والكرامة.
وقد كنتُ في مسيرتي المحدودة قد وطّنتُ نفسي أن أعيش زاهداً ليس فيما عند الساسة فحسب، بل بالدنيا وما فيها.

أستاذ نبيه

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: “مَن كان كفنه في بيته لم يكتب من الغافلين، وكان مأجورا كلما نظر إليه”
فحينما قررت مصارحة قوانا السياسية (ذات الصبغة الأمنية والعسكرية) التي لا تتورع عن أي من المحارم؛ فقد أخذت في الحسبان أنني قد أغادر الدنيا حتى من دون قبر، وقد لا أجد مأوى ترقد فيه جثتي، ولا أكترث لذلك، ف(الخوف ليس أن تموت، الخوف هو أن لا تعيش حياتك) كما يقول الأديب الفرنسي فكتور هوغو.

و” كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تَقَطَّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ‏، بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَ كَرْبَلَاءَ فَيَمْلَأَنَّ مِنِّي أَكْرَاشاً جُوفاً، وَ أَجْرِبَةً سُغْباً لَا مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ”.

السابق
المواطن الجنوبي… ضحية الجهل بالقوانين وتخلي الجهات الرسمية، وغياب البلديات
التالي
قراءة في البيان الختامي للقاء بكركي: تجاهل لمرض الاحتلال واستفاضة في توصيف أعراضه