موقعة الكنيسة ورولا الطبش… وعوامّ يقودون المرجعيات!

أما وقد خبت نار السجالات التي أشعلتها زيارة النائب رولا الطبش الى كنيسة انطلياس عشية الميلاد وكادت تطلق شرارة الفتنة بين اللبنانيين، لا ضيم من سرد بعض الملاحظات بهدوء، تذكرة لمن يخشى لعل الذكرى تنفع المؤمنين.

فالواقعة وما تلاها من تداعيات وردود، شابتها مغالطات وأخطاء مبدئية، وقد تكون أرست سوابق هجينة لم نعرفها من قبل.

لم يكن دخول الكنيسة يوماً محرماً او ممنوعاً على أي مسلم عموماً، والسنة خصوصاً. فللسنة قصص عن دخول الخليفة عمر كنيسة القيامة والصلاة خارجها، وبالتالي دخول الطبش إلى الكنيسة ليس لُبّ المشكلة ولا حتى التقدم صوب الكاهن للتبرّك الذي أثار حفيظة خفاف العقول من العوام. كان يمكن تخطي حنق الناس بالتزام الصمت منذ البداية، لا بعد اصدار بيانين متناقضين. لكن يبدو أن الصائدين بالماء العكر من فئة الراسبين في الانتخابات النيابية كثر، أضف الى هذا كله أن الطبش حديثة ناعمة الأظافر في السياسة قليلة الحيلة.

الكارثة الحقيقية كانت بانصياع الطبش إلى خفاف النُهى وتهافتها على إرضائهم، خصوصاً بعد البيان الأول الذي أراه كان ممتازاً لو اكتفت به. فيما الطامة الكبرى كانت استدعاء رولا الطبش الى دار الفتوى، فبدت كمن يُستدعى لتلاوة فعل الندامة أمام من نصّب نفسه وكيلاً للخالق على الأرض، في فعلٍ اعترافيّ – كهنوتيّ لم تعرفه أدبيات الإسلام والمسلمين قط. بل أكثر من هذا، حمل فعل الطبش في طياته نَفَس الولي الفقيه بصفته الوكيل الحصري لله على الأرض!

حمل البيان في اسلوبه الكتابي وفي الطريقة الذي خرج بها شيئاً من الإملاء والإكراه، وصوّر الطبش وكأنها من الضالين، وهذا أيضاً لا يتفق مع تعاليم التنزيل الحكيم (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ~ البقرة ٢٥٦) حتى أن الحق بالكفر (هذا إن كنا نعتبر ما حصل كفراً وهو ليس كذلك طبعاً) مكفول بالتنزيل: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ~ الكهف ٢٩) فما القيمة المضافة من استدعاء “نائب (ة) عن الأمة جمعاء” مثّلت بزيارتها جمعية مختلطة متنوعة، لإلباسها لبوس تائه “لاأدريّ” (Agnostic) تتقاذفه الأفكار، بغية ثنيه عن ردة محتملة!؟!

استوقفني في البيان أيضاً، مصطلح “الاعتذار من الله” الذي أقرأه للمرة الأولى في أدبيات الإسلام السنة بالمناسبة! غالباً ما يقال “استغفر الله” او “تاب إلى الله” وليس اعتذر، وكأنه جاء ليؤكد صورة الوسيط بين عابدٍ ومعبود.

إقرأ أيضاً: الطبش لـ «جنوبية»: الحريري عازم على التشكيل وفق صلاحياته الدستورية بعيداً عن أي أعراف جديدة

لا أبالغ إن قلت إن بيان دار الفتوى كان مخيباً للآمال، وقد أجهض الكثير من مراحل انفتاح السنة على المسيحيين، وأعادها أميالاً إلى الوراء.

أما في الجهة المقابلة، فرد فعل بعض المسيحيين لم يكن على قدر من المسؤولية كذلك، إذ لبس كثير من الساخطين قفازات التعفف ورفعوا سبابة الاتهام الجاهز المعلب، بالعيب واستحالة العيش والغدر والازدراء… الخ، متناسين الضغوط التي صُبّت في قضية مشابهة (بل مطابقة) على رأس الأب عبدو رعد قبل سنتين، حين رفع الأذان في مقام مليتا جنوب لبنان خلال شهر رمضان، وشُيطِن إلى حين أصدر بيان اعتذار مشابهاً في التراجع والذل، نزولاً عند رغبة صغار النُهى.

أمس، أكد الرئيس المكلف سعد الحريري، بتغريدة، ثقته بالنائب رولا الطبش‏، واصفاً إياها بـ” الناشطة من اجل المرأة والشباب ولبنان والعيش الواحد بين جميع ابناء لبنان”. لكمة وجهها الحريري لمن حاول عن قصد أن يردّ “الصبي” إلى القفص الطائفي، محاولاً بمِداده، عن جهل في ما يبدو، محو مسيرة طويلة من نبذ التفرقة والانفتاح على الآخر، عمدها والده رفيق الحريري بنجيعه!

إقرأ أيضاً: الحريري مغردا: كل الثقة بنائب بيروت رولا الطبش

لا شك في أن حادثة الطبش جاءت لتقول صراحة: لسنا بقدر المسؤولية، خصوصاً في زمن التواصل الاجتماعي، حيث الجمهور لم يعد صامتاً يشاهد مجريات الأحداث من خلف الشاشات، إنما بات شريكاً فاعلاً في حياكة الأحداث وصناعة الرأي العام وصقل توجهاته، وغالباً عبر مخرجات جهل وتعصب، فبدلاً من أن تجرّ المرجعيات الروحية عوامها إلى كلمة سواء، تنصاع هي الأخرى للغرائز والرغبات… ولله الحمد!

السابق
المصارف تناقش الدعوى المُقدّمة في نيويورك
التالي
نانسي عجرم تتساءل: وين الدولة؟!