الموت البطيئ

أطفأ سيجارته ونفث ما تبقى من دخان في فمه وقال: لو يتاح لي أن أروي لكم ملاحم عن عذابات شاهدتها وسمعتها لفعلت، لكن من أين أبدأ؟
بدأ صديقنا يروي ما سمعه عن لسان أحد المحررين من السجون السورية، وهي قصص كثيرة مؤلمة، وأضحت معروفة عند الناس من كثرة تداولها، عن حشرعشرة أسرى معاً في زنزانة لا تزيد مساحتها عن متر مربع واحد، يقفون طول النهار، لا يمكنهم الحركة كأعواد في علبة الكبريت، وكانوا حين يؤمرون بالنوم، يرخي كل واحد منهم جسده ليهبط وينسدل، بحيث ترتبط اجسادهم بعضهم ببعض، وتصبح أي حركة معدومة حتى يفتح باب السجن. أما من كان حظهم أوفر، وزنزانتهم تتسع لتمددهم على الأرض، كانوا ينامون على جنباتهم متلاصقين من الحائط حتى الباب، يزركهم السجان بأن يدوس بحذائه على ظهر اول المتمددين أمامه والاستمرار بالضغط حتى يستطيع حشرهم وكبسهم بباب السجن، وهذه الطريقة تسمى التسييف، أي عليكم أن تناموا على جنبكم كحد السيف، غير قادرين على التفلت من هذه الوضعية، ولا ينفك هذا القيد حتى يفتح الباب.
يضيف الراوي، أن أغرب ما استوقفني من أشكال التعذيب وأفظعه، قصة هذا الرجل المحكوم بالسجن الانفرادي.
استغل لحظة تأثرنا الشديد، أشعل صديقنا سيجارة جديدة، أخذ سحبة عميقة منها وقال: بقي الرجل في سجنه الانفرادي لسنين طويلة، حتى بات يجهل عدد السنوات التي قضاها، لا يعرف كيف تنقضي الايام والشهور وفصول سجنه. وفي جدار سجنه الانفرادي طاقة صغيرة كان يطل من خلالها على العالم الخارجي، فتحة بالحائط بحجم قبضة اليد يرى من خلالها الكون كله فهي فضاءه الوحيد طيلة فترة الأسر.
يقول: أنه استطاع ان يبني علاقة مع عصفور دوري، بدأت عندما ترك له فتات خبز على حفة هذه النافذة، أتى العصفور وأكلها، دون أن يتعرض له بأي أذى، حتى اعتاد العصفور أن يأتي يومياً ويجد قوته. فهذه المرة، هو الطائر الطليق وأمامه صديقه في قفص ينتظرالحرية.
يزعم الأسير أن علاقة حميمة نشأت بينه وبين هذا العصفور، فهو ضيفه اليومي وصلة وصله الوحيدة مع العالم وهو رفيقه ومتنفسه وحامل رسائله الى الحياة. استمرت هذه العلاقة بينهما حتى لاحظ السجان أن شيئاً ما يتلهّى به السجين عند الفتحة الصغيرة، وقام بمراقبته حتى اكتشف علاقته بالدوري.
طلب السجان من الأسير أن يقبض على العصفور ويحضره معه في اليوم التالي الى التحقيق، والا فإن قصاصاً قاسياً بانتظاره. فما كان على السجين الا تنفيذ ما أمر به، لتقديره مدى خطورة التهديد، غدر بصديقه وأحضره معه مرغماً.
جلس السجين وصغيره بين يديه، رمقه السجان باحتقار وسأله ساخراً: أهذا هو صديقك؟
عليك بدقيقتين فقط أن تضع العصفور كما هو حياً في فمك وتأكله بريشه، واذا تمنعت؟ فستأكلك الكلاب!
صمت صديقنا قليلاً يتأمل صدمتنا، وتابع قائلاً: “لقد أكل المسكين العصفور حياً بريشه!”
نعم! أكله وكأنه يأكل بعضه. فلا القضية قضية طعم طير حي، ولا الصعوبة في ابتلاع ريش عصفور، بل انه قضى على ما تبقى من انسان في داخله وجرّده من كل معاني الحياة…
ثم أعاده السجان الى السجن.

السابق
لبنان ينأى بنفسه عن دعوة سوريا إلى قمة بيروت الاقتصادية
التالي
محفوض: لا ننتظر أقل من اعتراف الجانب السوري بارتكاباته