2018: العالم ينقلب ولبنان ينتظر

هل كان عام 2018 مختلفاً عمّا سبقه؟ في عالمنا العربي، والعالم، وعندنا في بلاد الأرز؟ سؤال متداخل في أسئلة، قد يكون بأجوبة ملتبسة أو بظواهر دامغة. ما الذي حمله عامنا الراحل (بلا رحمة)، عن عامنا الأسبق؟ ربما لا شيء. وربما أشياء عديدة: مفاجآت صارخة هنا، واستمرارات «متطورة» هناك، وجمود في غير مكان.

عام فرنسا لم يكن مريحاً، ولا عام بريطانيا، ولا أميركا، ولا البرازيل، ولا سوريا، ولا المهجرين، ولا الديموقراطيات، ولا المواجهات، ولا الاقتصاد..

من البريكست الانكليزي، إلى السترات الصفر في فرنسا، ظاهرة جديدة في بلاد نابوليون، إلى ماكرون. الإصلاحات الاقتصادية التي قررتها الحكومة الفرنسية، كما رأى كثير من الفرنسيين، مجحفة في حق الطبقات الفقيرة والمتوسطة: زيادة الضرائب على المحروقات فجّرت الوضع. زوّار جدد نزلوا إلى الساحات (وفي قلب باريس) «الشانزليزيه»، احتجاجاً حاملين نضالاً «نقابياً» مطلبياً في البداية (إلغاء الرسوم على المحروقات)، وسمّوا أنفسهم «السترات الصفر»، كأنها ملابس جامعي النفايات، أو العمال.. تظاهرات شعبية عارمة التفّ الناس حولها، لأن مصالحهم قد مُست، وأن مصالح الأغنياء قد عُززت. كل شيء أوحى بأن الألوف التي نزلت إلى الشوارع في عدد من المدن الفرنسية، كانت ديموقراطية سلمية. لكن، وفجأة، اتخذت الاحتجاجات طابعاً عنيفاً: إحراق السيارات، تحطيم النوافذ، إشعال النار في بعض المؤسسات الخاصة، إحراق الإطارات، وحتى تهشيم بعض الأنصاب ذات الرموز الوطنية والتاريخية. تغير المشهد الجماعي، وتدخل «المكسّرون» وكان على القوى الأمنية أن تستخدم «القوة»: الخراطيم المائية، القمع، ثم مواجهة مباشرة مع المحتجين. ما زالت الناس مؤيدة للحركة، خصوصاً أحزاب اليمين المتطرف (لوبان)، واليسار المتطرف (ميلانشون). هل تحولت السترات الصفر إلى حمراء، إلى رمادية: هل استعارت شيئاً من ثورة 8 أيار الطالبية العنيفة؟!

وهنا تراجع ماكرون عن «إصلاحاته»، معتذراً من الفرنسيين، لكنه ووجه باستمرار الاحتجاجات.. لكن بوتيرة أخفّ وبتردّد واضح للناس: هالتهم الأضرار التي لحقت بباريس نفسها، وبحاضرتها، وطالب بعضهم بعودة المظاهر السلمية في المطالب، وعودة إلى الأطر النقابية المطلبية، التي حطمها ذوو «السترات الصفر».. الجديد في هذه التحركات أنها وقعت في نوع من الشعبوية في هتافاتها وممارساتها، وإذا كان البريكست الانكليزي، عبّر عن نفسه بالاستفتاءات، وكذلك المجري (فيكتور أوربان)، وصولاً إلى الإيطالي (بالانتخابات)، فإن ما جرى في فرنسا بات أقل من ثورة 1779، ودون 1968.. لكن يحمل في طياته بذوراً منها: العنف العمومي، والتحطيم، والنبرة الحاقدة، وغياب القيادة، والقرار المشترك، وغياب الحوار السياسي، كلها بوادر، تجعل كل شيء قابلاً للتكرار، حتى حذّر بعضهم من اندلاع حرب أهلية أو التأثير في سلمية الناس، وجنوحها إلى السلبية خارج القوانين والأعراف.

سوريا

أما في سوريا، فبدا عام 2018 قاحلاً بالنسبة إلى ربيعها الشعبي، وحروبها مع النظام: فبعدما عجز حزب الله، (وإيران)، عن إنقاذ الأسد، استجرت روسيا للحسم (تحت شعار محاربة الإرهاب)، ومثلها تركيا بالشعار نفسه لكن لقمع مطالب الأكراد.. روسيا «انتصرت» وجمعت في أيديها قرارات الحرب والسلم، والتفاوض. فهُمِّشت إيران، وها هو حزب الله يعود (أو يستكمل عوداته) صفر اليدين، وصفر الانتصارات، مهزوماً بعدما تكبّد سقوط 5 آلاف شيعي لبناني بين قتيل وجريح كرمى للأسد وخامنئي.

كأنما خسرت إيران أيضاً في اليمن، بعد انسحاب وكلائها الحوثيين من ميناء الحُديدة، (بموافقة الملالي)، وتسليمه إلى القوات الدولية. والخسارة فاجأتها في العراق، حيث انقلب ملايين السكان وخصوصاً الشيعة (بقيادة مقتدى الصدر) ضدّ الوصاية الاحتلالية. مظاهرات مليونية: «إيران برّا برّا»، الشعار نفسه الذي هتفت به ثورة الأرز «سوريا برّا برّا». انكسر «الهلال المزعوم».. ولم يعد عند خامنئي وحرسه سوى لبنان: بحيث اشتد الحصار الاقتصادي الأميركي على الإيرانيين، ونزلت مظاهرات تُعد بمئات الألوف تُطالب بسقوط النظام.. و«اخرجوا من لبنان وسوريا واليمن والعراق»..

وإسرائيل

أما إسرائيل فواصلت إجرامها، وسلوكها العنصري (يهودية النظام)، وجنوح المستوطنين إلى إحراق المنازل ومصادرة الأراضي، وقتل المتظاهرين.. من أطفال ونساء ومقاومين وسلميين: إسرائيل هي داعش القرن العشرين، وربما القرن الحادي والعشرين: التطرف الديني، والعنصري، والمذهبي، والعنف، والتدمير، والسجون، من دون أن ننسى المواجهة السياسية الانقسامية بين حماس والسلطة الفلسطينية، وهي تعبّر عن انقسام الانقسام في فلسطين المحتلة، وسيادة منطق الكانتونات في غزة والضفة: هدية ثمينة للعدو يُشارك في عطائها كل مَن يسعى إلى استمرار الخلاف بين السلطة وحماس، من عرب أو غير عرب.

لبنان

إن هذا التأجج السياسي، والأمني، وسيطرة النوازع الانفصالية في أوروبا، وفي بعض العالم العربي، كأنما كان لبنان، على امتداد الأزمات، بمنأى عنها: حمى نفسه من العنف، والجنون، وحافظ قدر مستطاعه على الأمن، وعلى مسار الحياة الطبيعية.. في سنتي ولاية الرئيس عون، وبعد فراغ دام سنتين ونصف سنة لانتخاب رئيس للجمهورية، وهو فراغ مديد كاد يستديم لولا مبادرة الرئيس الحريري بترشيح عون، وارتباك الحزب، ثم قبوله، ثم عملية الانتخاب في البرلمان.

لكن، شهدنا، ثلاثة أرباع العام 2018 أزمة أخرى: قد تكون مفاجئة أو متوقعة، بعدما سمى المجلس النيابي الرئيس الحريري، (بعد الانتخابات)، لتشكيل الحكومة. إنه عام فراغ، يتميز عن غيره باشتداد الأزمة الاقتصادية والمالية، لكن بوعود عارمة من مؤتمر «سيدر» بتقديم مساعدات للبنان للخروج من النفق الاقتصادي الطويل، شرط أن تتألف الحكومة.. وتنفذ المشاريع المطلوبة منها. خلنا أن المسألة (أو بالأحرى خالت الناس) سهلة، باعتبار أن نواب 8 آذار أبدوا استعداداً «اسطورياً» لتسهيل مهمة الحريري، لا سيما السيد حسن نصرالله. لكن المايسترو يُخرِج من أكمامه «توزير» جماعته من «السُنَّة» (غير المستقلين)، وذلك بعد مخاض الصراع حول حقائب. انتهت الحقائب وجاءت أخرى: نزع الثلث المعطل من الحريري، باقتطاع وزير من حصته لمصلحة أحد «دمى» الحزب: عودة إلى الوراء. ثم قيل إن «الأزمة حُلَّت» بمبادرة من الرئيس عون. ثم طلعت من عدة أكمام أرانب أخرى، استرجاع اختيار الحقائب التي اتفق عليها، إسقاط مبادرة الرئيس عون الذي دعم الرئيس الحريري، وحاول جاهداً إيجاد مخارج لافتعالات الحزب: عادت الأمور إلى مطباتها ومربعاتها «الفوضوية»، أو فلنقل «الفراغية». وبدا أن المستهدفين عون والحريري وضعا على مرمى 8 آذار لتخريب الدستور، والأعراف والتقاليد المتبعة: الجمهورية هي المستهدفة، بكياناتها وتوازناتها (وخصوصاً الطائف)، ومحاولة فرض معادلات جديدة غير مألوفة وغير دستورية، لتمكين حزب إيران من الانتقال من «قرض المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية والقضائية» إلى الهيمنة الفاصلة على قرارات الحكومة والبرلمان: إنه جديد العام 2018، وتابعه 2019، بعد تمهيدات مشبوهة معروفة، في لحظة مفصلية يمر بها النظام الإيراني المعزول شعبياً داخل بلده، وعالمياً، والمحاصر بأزمة اقتصادية غير مسبوقة، وطبعاً، بانكسار «هلاله» المزعوم.

بمعنى آخر إن الاستراتيجية التي اتبعها الملالي لتحويل العالم العربي والإسلامي دويلات مذهبية، وحروباً، وخراباً، قد تحطمت: الاستراتيجية المكسورة كأنما تنهي دورة من أكثر من 30 عاماً، من الفوضى والقتل وتغيير الديموغرافيات (سوريا والعراق)، والحروب، لم يبق للنظام سوى اللعب ضمن تكتيكات هي دفاعية، لأنها أدركت بنية السلطة وأدواتها. وكلنا يعرف وضع إيران في سوريا (بعد مجيء روسيا وتركيا)، وفي العراق. وفي اليمن.. هنا، تبدو التكتيكات، عبثية لإعادة الاعتبار لإيران دولة قوية لها الشأن الكبير في سياسات الدول المجاورة. ولأن حزبها في لبنان الذي عاد أيضاً بأيدٍ فارغة من سوريا، وبخسارة مدوية، ولأنه لم يبق لإيران سواه، كمنفذ لمخططاتها (اليائسة)، ومكان لنشر الفوضى في العالم العربي والعالم، فعلى هذا الحزب أن يظهر لكل الملأ أن لبنان كله، بحكوماته، ونوابه، ومؤسساته، تحت سيطرته، كتعويض لكل ما استنزف أربابه. كأن الحزب الذي بدا أخيراً في الزاوية، يريد الخروج بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، ويسعى إلى تفكيك بعض الكيانات السياسية الأساسية كتيار «المستقبل»، و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، فبات له «دروز سُنّة»، و«سنّة داخل السُنّة»، بتبجح صارخ، بأنه لم يعد الحريري الممثل الحصري لطائفته.. وكذلك جنبلاط. لكن الجديد – القديم، أن الحزب، وإمعاناً في تعطيل الدولة، كشف ميليشيا وهاب المسلحة في الجبل.. وقد يكشف في ما بعد ميليشيا بعض «النواب» السنة في بيروت وصيدا.. أعودة إلى زمن الميليشيات والصراع على الهوية ليس فقط بين الطوائف، وإنما داخل الطائفة نفسها: ولمَن يتذكّر، فالحزب يتبنّى سياسة الوصاية السورية في لبنان: تدمير الأحزاب والطوائف من داخلها، وإعدام كل صراع سياسي، أو ديموقراطي (نسبي) أو سيادي: اختاروا بين الأمان الذي نوفره لكم، مقابل البلد والدولة.. وإلا فأنتم مسؤولون عمّا يلحق بكم من تشريد وحروب ونزاعات (وتظاهرات غير سلمية تشبه 7 أيار..).

جديد الحزب

إن جديد الحزب في نهاية 2018، وليكون مادة للأعوام المقبلة: من وصاية سورية إلى أخرى مزدوجة إيرانية – سورية، ومن ودائع أسدية، إلى ودائع خامنئية. ومن هوية مضروبة إلى أخرى مضروبة. ومن مصائر مجهولة إلى أخرى مجهولة. فنحن أهل السلاح والصواريخ، والاجتياحات، الكلمة لنا، والباقي لا يهم، وخصوصاً أن جبهة 14 آذار غير سوية حالياً، وغير مؤتلفة. إذاً، جبهة السيادة والطائف والدستور مفككة، فلماذا لا نضرب ضربتنا؟ فإسرائيل تريحنا على الحدود الجنوبية (كما أراحت النظام السوري بالنسبة إلى الجولان)، فليطمئن الجميع، وحذار الرهان على الخارج، الذي لم يعد يلبّي أحداً، لانشغاله بأزماته. بمعنى آخر، يريد الحزب أن يقول إذا كنّا محاصرين داخلياً (أكثرية الشعب ليست معنا)، وخارجياً، فنحن في المقابل نحاصر لبنان: واحدة بواحدة. وإذا كان بعضهم يراهن على مؤتمر «سيدر» لإنعاش الوضع الاقتصادي فلن يكون ذلك مفيداً أو ممكناً، ما دامت إيران مُحاصرة تخضع للعقوبات الأميركية وسواها: عقوبات على أربابنا تعادل عقوبات على بلدنا (لبنان): واحدة بواحدة.

إنه جديد الحزب (بل وقديمه) يطل في أواخر 2018 (بعد أزمة حكومية من 8 أشهر)، على عام 2019. «انتهى دلع السياسيين»، (كما صرح أحد المسؤولين الإيرانيين)، وجاء زمن القوة، والحسم، والجدية في تحويل لبنان على صورة ديكتاتورية الملالي.

بعد «السترات الصفر»، وإحراق أحد التونسيين نفسه احتجاجاً على الأوضاع المعيشية، يفاجئ السودانيون العالم بربيعهم، كأن زيارة البشير لبشار كانت نحساً على الرئيس السوداني: ثورة شعبية تجاوزت المطالب الاجتماعية إلى المطالبة بإسقاط النظام (هذا عرفناه أيضاً في تظاهرات الشعب الإيراني ضد استبدادييه). التاريخ، ومن دون مسافات تُذكر، يُعيد نفسه من سوريا، إلى اليمن، إلى تونس، إلى مصر.. كأن الربيع العربي لم يمت كما نعاه كثيرون.. بل يندلع في مكان، لينبت في مكان آخر: تظاهرات السودان السلمية التي تعم كل البلاد، أشبه بتظاهرات الشعب السوري التي انطلقت من درعا.. واجتمع عليها العالم كله لتدميرها.

فهل يستفيد الثوار السودانيون من كل مواطن الربيع العربي؟ أم سيحول ربيعهم إلى جحيم؟

عام 2019، سيكون ليس عام المخاوف بل التمخضات الكبرى.. عند العرب، وفي أمكنة عدة من العالم.

السابق
فصل جديد من الفوضى الدموية؟
التالي
هذا ما جاء في بيان «اليونيفيل» حول نفق كفركلا ومعمل الباطون