قرار الانفتاح العربي على دمشق يسبق «المستجد التركي» وتعويم الأسد له شروطه!

لا تأتي التطوّرات المتسارعة في المنطقة من خارج سياقات أو خطط مرسومة بغض النظر عن إمكان وصولها إلى أهدافها المنشودة. هذا ينطبق على القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعلان انسحاب قواته من شرق الفرات في سوريا، والكشف عن وجود تنسيق أميركي – تركي لعدم السماح بحدوث أي فراغ من جراء هذا الانسحاب الذي عاد وأوضح الرئيس الأميركي أنه سيكون بطيئاً ومنسّقاً بدقة، وأردفه لاحقاً بتغريدة عن الدور السعودي في عملية إعادة الإعمار, وينطبق أيضاً على زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى دمشق بوصفه أول رئيس عربي يزور سوريا منذ اندلاع الثورة، وعلى الزيارة العلنية لرئيس مكتب الأمن الوطني السوري علي المملوك إلى مصر، والأهم أنه ينطبق على إعلان الخارجية الإماراتية إعادة العمل بسفارتها في العاصمة السورية والذي أعقبه إعلان مماثل من البحرين، وتسيير أولى رحلات الطيران الخاص من دمشق إلى تونس بعد انقطاع دام سنوات ثمان، وإن لبست طابعاً شعبياً.
ما جرى، خلال أسبوع، من خطوات جوهرية، يؤشر إلى تحوّلات مفصليّة في اتجاه الأزمة السورية. لكنها، وفق المتابعين، ليست وليدة الساعة، وإن أحدثت قدراً من المفاجآت الإعلامية بَدَأ مع زيارة البشير، التي شكّلت مدخلاً لفتح الأبواب أمام العودة العربية إلى سوريا. فبعدما ارتسمت معالم التوزع الجغرافي للقوى المنخرطة في سوريا، ورُسمت إلى حد كبير حدود النفوذ لكل منها على الأرض بتوافقات دولية وإقليمية، وانتقال المسألة إلى المستوى السياسي من التفاوض وتجاوز نقطة بقاء الرئيس السوري بشار الأسد على رأس النظام في مرحلة انتقالية في انتظار إنجاز بنود التسوية التي ستؤول إلى دستور جديد يرسم معالم مستقبل البلاد، بات لا بدّ من مقاربة جديدة لكيفية التعامل مع الوقائع السورية الجديدة.

اقرأ أيضاً: سوريا: العرب يحضرون السوق

ففي المعلومات أن الإمارات تسير منذ أشهر طويلة في مسار انفتاحي على دمشق قبل المستجد التركي، حيث زار مسؤول أمني رفيع مرات عدّة دمشق بعيداً عن الأضواء، كما قام المملوك بزيارة أبو ظبي ولقاء مسؤولين كبار فيها. انفتاح إماراتي نُظر إليه في دمشق على أنه جزء من رعاية لتفاوض غير مباشر سعودي – سوري، عززه قرار البحرين أمس بفتح سفارتها، والتي تعكس خطواتها السياسية والاستراتيجية صدى سعودياً جلياً أكثر وضوحاً نظراً إلى هوامش التحرّك الإماراتي رغم العلاقة التحالفية بين أبو ظبي والرياض.
لعبت موسكو دوراً في تشجيع ورعاية الانفتاح العربي. روسيا اللاعب الرئيسي في سوريا بعد تدخلها العسكري لحماية نظام الأسد تسعى إلى تكريس حل سياسي، يحمي انتصاراتها العسكرية ومصالحها الاستراتيجية من خلال تعويم رأس النظام من جهة، ويقيها، من خطر ارتداد صراعها مع الإسلام السياسي على واقعها الداخلي من بوابة انبعاث الحياة مجدداً في التنظيمات المتطرفة في الجوار الروسي، إذا ما ذهبت في خطوات استفزازية لا تأخذ في الاعتبار التكوين المجتمعي والتوازنات الطائفية سواء في سوريا أو المنطقة.
على أن روسيا تدرك أن تثبيت أي تسوية لا تستقيم من دون إعادة الإعمار، وهي المعيار لتكريس السلام. من هنا بقيت مبادرتها لإعادة النازحين معلقة، ولا يمكن إحداث اختراق فيها إلا عن طريق الوصول إلى تفاهمات كبرى مع الشركاء في إعادة الإعمار الذين هم لاعبون أقوياء في زمن السلم. وارتبطت عملية إعادة الإعمار بسلة من الشروط، في مقدمها إنجاز الحل السياسي، وفق «جنيف1».
أما مسألة إعادة تعويم الأسد عربياً، فهو أمر يحمل في طياته الكثير من التحديات، إذا كان الهدف منه إعادة استعادة الرجل من الحضن الإيراني. فقد سبق أن راهن الغرب، وفي مقدمه فرنسا في زمن نيكولا ساركوزي ومعهم الخليج والسعودية تحديداً، على احتواء الأسد، بعد عزلته الأولى عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي آلت بالرئيس سعد الحريري في العام 2009 إلى زيارة دمشق وإلى المكوث في قصر تشرين وحيداً. لكن كل المحاولات أظهرت عقم الرهانات حين انقلب الأسد على الاتفاقات وعاد إلى كنف إيران الحليف الاستراتيجي له.
لا يزال من المبكر استشراف معالم المرحلة المقبلة بكليتها، خصوصاً أن ثمة أسئلة تنتظر مزيداً من تبلور الإجابات عليها. منها ما يتعلق بمرامي قرار ترامب الانسحاب من الشمال السوري، في وقت يعلن من قاعدة «عين الأسد» في محافظة الأنبار التي زارها لقضاء ليلة الميلاد مع الجنود الأميركيين بقاء قواته في العراق، وعزمه على استخدامه كقاعدة إذا أراد القيام بعمل عسكري في سوريا. في القراءة أن خطوة ترامب هي أقرب إلى إعادة انتشار للقوات الأميركية على جانبي الحدود العراقية – السورية. فانسحاب جنودها من الضفة السورية لا يشكل تغييراً في المعادلة العسكرية بالنسبة لهدف واشنطن الرئيسي الذي يتمثل بمنع امتداد جسر بري بين إيران وسوريا عبر العراق. فالقوات الأميركية هي الموجودة على الأرض وقادرة على التحكم بالأرض، وهذا ما يفسر استماتة إيران على الإتيان بفالح الفياض إلى وزارة الداخلية المعنية أمنيا بالمعابر الحدودية، بما يمكنها من تأمين التواصل البري الذي تعتبره مسألة حيوية لها. والعراق هنا هو حجز الزاوية لواشنطن إذا ما تطورت المواجهة إلى مستويات أخرى.
والأسئلة التي تحتاج إلى إجابات واضحة تتعلق بحقيقة الأهداف الكامنة وراء استخدام ترامب «الورقة التركية» في هذا التوقيت، وما إذا كانت تندرج في إطار احتواء تركيا وسحبها من الحضن الروسي – الإيراني، أم إغراقها في وحول سوريا والدفع في اتجاه تأجيج صراع المصالح بين كل من موسكو وأنقرة وطهران، أم أنها تتعلق بما يرسمه سيد «البيت الأبيض» في سياق خطة السلام الفلسطينية – الإسرائيلية التي يأمل أن يبدأ بتسويقها في الأشهر الأولى من العام الجديد.

السابق
ماذا بعد أن أصبح الصراع مكشوفاً بين حزب الله والتيار العوني؟
التالي
لا دور لإيران في منظومة تقاسم النفوذ الأميركي الروسي التركي