العلامة السيد محمد حسن الأمين: الإسلام لا يتعارض مع العلمانية

يتوجه كتاب العلامة السيد محمد حسن الأمين، “الاجتماع العربي الاسلامي” الصادر لدى “دار الهادي”، إلى فئتين مفترضتين في الوقت نفسه: المؤمنون من جهة اولى، مع كل ما يخالط وعيهم من مشكلات ومسبقات، والعلمانيون، إذا جازت التسمية، مع كل ما يخالط وعيهم من ازدراء وخفة وثقة بالأفكار المدرسية عن العلمانية والحرية.

ذلك التوجه الملزم يفسد الكتاب قليلاً. بمعنى ان العلامة مضطر في هذا الكتاب إلى المبالغة في الشرح والتبسيط أحياناً، والمجادلة في أحيان أخرى في موضوعات ومشكلات تبدو له من البديهيات. ولولا اضطراره هذا لبدا الكتاب قادراً على التقدم اكثر من دون ان يعير المتخلفين عن الركب انتباهه.

هذه الملاحظة كانت اولى ملاحظاتي على الكتاب قبل ان اجري هذا الحوار. لكن الحوار مع السيد بدا لي ضرورياً لتبديد هذه الفكرة ونسفها من اساسها.

منذ الصفحة الأولى، ولنقل منذ أول اجابة عن اول سؤال، اوضح السيد ان شرط التقدم في الأفكار، الأول والأساسي، هو شرط اجتماعي. لا معنى خارج الإطار الأكاديمي الصرف لأي تجاهل في هذا المجال. علينا ان ننجز في الاجتماع خلق جو يمكّن فئات المجتمع من الحوار الحر والصحي والضروري.

اقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين: الانتصار للمنهج العقلي يجدد الإسلام ويدخلنا في العصر

يستطيع السيد ان يتجاهل فئة من الفئتين وفي وسعه ان يتجاهل الفئتين في آن واحد، ويخاطب المفكرين ويحاورهم، قديمهم وحديثهم. فالتاريخ البشري تاريخان، تاريخ الحوادث والوقائع وتاريخ الأفكار. والثاني معاصر على الدوام. اليوم يستطيع القديس توما الإكويني ان يطرح عليك أسئلة شائكة مثلما ينجح في طرحها نيتشه او كارل بوبر. لكن نيوتن لا يستطيع ان يطرح اشكالياته وأسئلته بعد اينشتاين. السيد يولي عنايته للإجتماع بكل تجلياته وارهاصاته وحراكه، لكنه ايضاً يولي عنايته بتاريخ الأفكار وهو بذلك لا يريد ان يتجاهل احداً. خصوصاً حين يصير التجاهل مرادفاً لبعض ضروب الاستبداد. شرط الحرية ان تأخذ في الاعتبار ما يحف بك ويحيطك من كل جانب. شرط الحرية في هذا المعنى ان تحرض الجميع على نيلها. فلا قيمة لحرية فرد في التفكير مثلما يريد، من دون اخذ حرية الاجتماع في الاعتبار.

يبقى ان فكرة أخرى كانت تدور في خاطري قبل لقاء السيد في حوار حول كتابه الأخير. ولم يفعل اللقاء بها إلا ان زادها قوة وحضوراً: من المؤسف، بالنسبة لي انا العلماني، ان لا اجد من احاوره افضل من بعض رجال الدين. لنحدد اكثر: رجال دين من طينة السيد محمد حسن الأمين والسيد محمد حسين فضل الله تحديداً، حتى لا يكون التعميم مضللاً. لا يتأتى الأسف من كون الحوار مع رجال الدين غير مجد، على العكس من ذلك، مُجدٍ وضروري وبالغ الأهمية. لكن المسألة تتعلق في ندرة من تحاوره او تستطيع اتخاذه محاوراً بين العلمانيين.

كتاب السيد يطرح على العلمانيين تحدياً ضخماً. كيف يمكنهم ان ينشئوا مع امثاله حواراً غير متملق لا يرحب بأفكاره إلا بمقدار ما تقترب من مسبقاتهم؟ وهل ثمة بين العلمانيين من يمكن اعتباره على سوية ملائمة لإنشاء حوار مجد وحيّ؟ حوار في العلمانية والحداثة وسبل الأخذ بأعنة التقدم، حوار في ميدان العلمانيين من دون مسبقات من اي نوع. هذا ما يطرحه السيد على العلمانيين في صورة اساسية مثلما يطرحه على علماء الدين بداهة وانتماء.

ذهبنا إلى منزله، كانت لدينا اسئلة محددة مسبقاً، لكن الحوار تجاوز الأسئلة المقررة ومضى في اتجاهاته التي خرجت احياناً عن مضمون الكتاب.

النشأة والتكوين الفكري
* تعكس الأفكار الواردة في كتابك اهتماماً ملحوظاً بالثقافات والأفكار العلمانية، إذا جازت التسمية، شرقاً وغرباً. وهذا مما لا يمكن اعتباره مألوفاً وبديهياً بالنسبة لشخص نما وترعرع في بيئة دينية. هل يمكن ان تحدثنا عن ظروف نشأتك، وعن اثرها في تكوينك الفكري؟

توجد علاقة لا يمكن اغفالها وهي ذات تأثير بالتأكيد على التوجهات والافكار والأسس التي تستند اليها رؤيتي للدين والمجتمع والكون والطبيعة والانسان. ذلك ان نشأتي لم تكن تقليدية صرفا، بل كانت محاطة بشيء من الاهتمام المميز، بحيث دخلت المدرسة كما دخلها كل الاتراب والزملاء، ولكن بالاضافة الى ذلك كان البيت بيتا دينيا من جهة وعلميا يمجد قيم العلم والمعرفة والاطلاع والقراءة والحديث والشعر في الدرجة التي الزمتني منذ الطفولة أن يكون حظي سيئا او حسناً لا ادري، عندما اختير لي ان اتعلم في مدرستين في آن واحد، المدرسة الرسمية ومدرسة البيت التي لم يكن يكتفي المربي (وهو الوالد)، بما تتيحه مدرسة البيت من تواصل مع المكتبة ومع المجالس التي تنعقد في المنزل للتطارح في قضايا الفقه والادب والشعر. بل لم يكن بد من تلقّي دروس منهجية في هذا المجال وفي وقت مبكر جدا. كنت اقاوم رغبة احتجازي بين مدرستين مفضلا الحرية التي يتمتع بها اترابي خارج المدرسة الرسمية، ولكنني شيئا فشيئا اخذت اتذوق هذه المعرفة الاضافية من فقه وادب ونحو واتعرف الى الشعر العربي وأحفظ الكثير من قصائده، خصوصا عندما اكتشفت في ذلك الوقت المبكر، انه ليس من الصعب الاحساس بايقاع الشعر العربي وبمعانيه التي كانت تبدو مغلقة وبعيدة في المراحل الاولى لتلقيه.

واذكر، كنت فوق العاشرة بقليل، عندما دفع الوالد اليّ كتابا شعريا حديثا كان احد الاقارب قد حمله اليه من بيروت وقال لي: اقرأ هذا الكتاب، وكان الكتاب مسرحية “قدموس” لسعيد عقل. في الوهلة الاولى وجدت صعوبة في قراءته ولكنني بعد شيء من التكرار والاصرار اخذت اتلمس واتذوق شيئا فشيئا هذا الاسلوب الشعري المختلف. واذكر ان ذلك كان له تأثير بالغ في تكوين الذائقة الشعرية الجديدة عندي. واصبحت القراءة بالنسبة لي رغبة وهواية اكثر منها واجباً يمليه الوالد عليّ.

سأضيف ان العيش في بيت ديني قد يكون احيانا سبباً في شيء من الانكماش على الذات والخوف من الافكار والقيم الجديدة وغير المألوفة وقد يسبب احيانا حالة جمود لا تمكّن صاحبها من تنويع قراءته للأفكار والكتب والعالم. لكنني اذكر، وهذا ما يجب تسجيله فعلا، ان الوالد كان يتيح لي المناقشة والتفكير الحر بصورة ادركت اهميتها في ما بعد وعلى غير ما هو مألوف او متخيل من الآخرين الذين يرون ان التربية، والتربية الدينية في شكل خاص، لا تسمح بهذا اللون من التنوع والشك والقلق الذي اعتبر انه كان الاساس في تكوين اسئلة وفضاءات مختلفة عما هو شائع بين الكثيرين ممن عاشوا في ظل تربية دينية.

الآن ادرك اهمية ما اتيح لي من فرص مبكرة للتعرف مع الثقافة والافكار، الى التعرف ايضا على المفاهيم الدينية من طريق العقل والتفكير والنقاش والتوقف عند الاسئلة التي كانت تعتبر محرمة فساعدني ذلك في تخطي مرحلة كان من الممكن ان تكون طويلة جدا لأصل الى اقتناع بأن الدين وجد من اجل الانسان ولم يوجد الانسان من اجل الدين. ولاقتناع آخر هو ان الكائن الانساني فينا اذ يتلقى عناصر تكوين فكره ورؤيته للعالم بواسطة الدين فانه ايضا يقوم باعادة تشكيل الدين وصناعته وانتاجه مما يجعل المعطيات الدينية التي نواجهها مزيج مما اسمّيه الالهي والبشري معا.

وبدأت مبكرا ابحث بطرق بدائية ثم متطورة ثم منهجية في بنية الوعي الديني وفي العنصر الثابت منها والعنصر المتغير، اي الالهي والبشري. واستطعت بذلك ان اتحرر مما يسمى عقدة التحريم وهي عقدة ليست باليسيرة لأنني وجدت الكثيرين من الفقهاء والمثقفين الدينيين لا يكادون يتخلصون من تأثيراتها لا في بنيتهم الداخلية ولا في مناهج تفكيرهم واسلوب تناولهم للموضوعات التي تتصل بصورة مباشرة او بصورة غير مباشرة بالدين او بالفكر الديني.

هنا سوف اشير الى عنصر مكوّن واساسي كان له التأثير المهم على ما ادعيه من قدرة على تجاوز الكثير من الثوابت التراثية والاجتماعية، منشأه التعاطي مع النصوص الادبية والتعرف مبكرا الى الكتابات الادبية من كل انواعها والشعور بالانشداد الى النص والرؤية والى التشكيل الفني والادبي بحيث بدا لي ان الادب وسيلة من وسائل المعرفة الاشد التصاقا بجوهر المعرفة بكل انواعها ومكنني ذلك من قراءة النص الديني التراثي في وصفه ايضا مظهرا من مظاهر التعبير الادبي عن الرؤية الدينية للعالم وليس نصا مقدسا ومغلقا ونهائيا.

قرأت مبكرا ايضا التراث الفلسفي ابتداء من القراءات المنهجية التربوية والتي بدأت بالمنطق الارسطي، لكن ذلك دفعني للتعرف الى كتابات افلاطون وارسطو وسقراط والفلاسفة اليونانيين سواء بصورة مباشرة او بصورة غير مباشرة من طريق التعرف الى افكار الفلاسفة الاسلاميين الذين ما زلت اعتبرهم واسطة حية لنقل الفلسفة اليونانية وابقائها حية وتسليمها للغربيين الذين واصلوا اعمالهم بما جعلني اتابع هذا الخط فأقرأ الفلاسفة الغربيين في العصور الوسيطة وفي عصر النهضة.

هنا اود ان اذكر مأثرة لاستاذ تعرفت من خلاله الى الفلسفة الحديثة، كان يلقي علينا محاضراته في النجف اثناء الدراسة في كلية الفقه، جعلني انجذب انجذابا قويا للتعرف الى الفلسفة الحديثة وكان بالاضافة الى معرفته الدقيقة والشاملة لها اديبا وناقدا في الآن نفسه، هو الاستاذ مدني صالح الذي صار اسمه في ما بعد مشهورا وكادرا جامعيا معروفا.

الايمان ممزوجاً بالقلق
*تثير مداخلتك عن ظروف النشأة لدي سؤالين على الأقل. واحدهما اقل إثارة من الآخر. فلنبدأ بالمثير بينهما. علاقتك بالنص الديني التراثي، واعتبارك له نصاً ادبياً اكثر منه نصاً مقدساً، تثير تساؤلاً بديهياً. فحين تكون التفاسير والبراهين غير ملزمة في وصفها غير مقدسة، فهل هذا يعني بالنسبة لك ان علاقتك بالايمان هي إلى حد بعيد علاقة شخصية؟ وبكلام اكثر بدائية هل راودك الشك في وجود الخالق يوماً ما؟

دائما يطرح سؤال للشك وخاصة في فضاء التدين والدين والايمان ويطرح شيء من الحوار لكنني اود ان اشير الى ان المعرفة بكل مستوياتها وانواعها لا يمكن الا ان تكون مسبوقة بموقف الشك والحيرة وخصوصا امام اسئلة الوجود والكون والحياة والانسان والله والعالم. والذي انا على يقين منه ان المعرفة البشرية، اي العلم والاستقراء والبحث، ذلك كله لم يقدم للعقل الانساني ولأسئلته اي اجابات حاسمة ونهائية سواء في مجال العلوم التطبيقية او في مجال العلوم الانسانية، وتبدو هذه الحقيقة اي حقيقة غياب الاجابات الحاسمة والنهائية اكثر وضوحا امام سؤال الوجود. ومبدأه على النحو الذي يغدو فيه هذا السؤال خالدا متجددا باستمرار. ان العلوم الطبيعية والانسانية لم تستطع وليس من وظيفتها ان تقدم الاجابة عن هذا السؤال، وهذا السؤال كما اشرنا في الكتاب هو في جوهره سؤال ثقافي ومعرفي بدأ منذ بدأت حيرة الانسان ومنذ بدأت علاقته بهذا الوجود نفسه. سؤال يطرح بأشكال مختلفة. ما هو السر الذي يكمن وراء هذا الوجود؟ ما هو المبدأ الاول؟ هل يوجد وراء هذا العالم ما يؤكد العلاقة والسببية بينه وبين هذا العالم؟

اعتقد ان الدين هو المصدر الثقافي الغيبي الذي تولى الاجابة عن هذا السؤال. وكان الوحي هو الصيغة التي قدمت اجاباتها عن هذا السؤال على النحو الذي لا يتناقض مع المعطيات التاريخية والمادية للمعرفة البشرية وإن كان متجاوزا لها. فأدوات المعرفة المتاحة بالتراكم والخبرة والتجربة والاستقراء ليست مهيأة لأن تجيب عن هذا السؤال الغيبي. فلا بد اذاً من التماس مصدر آخر للمعرفة هو الوحي. وهنا لا بد من الفصل والتجريد بين الوحي في مبدأه الاول والملابسات البشرية التي اعادت انتاج المعرفة الدينية تاريخيا وبصورة متعددة ومتنوعة.

اذاً الايمان بالله من وجهة نظري يغدو تحديا لا قبل للعقل بمعطياته المكتسبة ان يواجهها بالرفض والتنكر، بل يغدو الايمان بوجود الله حقيقة لا بد من الاعتراف بها بحيث لا يستقيم منطق العقل بدون الاعتراف بها. على ان هذا الايمان ليس ثمرة لعجز العقل عن التفكر بأمور الغيب بل هو ايضا تجل من تجليات الروح والنفس والقلب، وما اشار اليه العرفانيون والمتصوفة من انه تجربة روحية ونفسية داخلية تكونت عندي في مراحل طويلة من تجربة الايمان التي مررت بها وما رافقها من شك وقلق وتعرّف على التجليات الالحادية سواء في الفكر الاسلامي او في الفكر الغربي لأكتشف ايضا ان الالحاد امر تاريخي طارئ وعارض على الفكر الانساني، وازداد اقتناعي بذلك عندما لاحظت ان تيار الالحاد في الفلسفة الغربية خصوصا كان تعبيرا عن الرغبة في استعادة المكانة للكائن الانساني من اشكال الاستلاب التي مارسها الفكر الديني ومؤسساته عبر ازمنة طويلة بما في ذلك فكرة موت الله كما قال بها نيتشه. والتي خطر لي في مداخلة حولها في أنها تعبير عن محاولة بالغة الاهمية والعمق للتعرف على الله من جديد وخارج قنوات الوعي السائد. بحيث تغدو فكرة موت الله لديه موتا حقيقيا ولكن لاله تاريخي بشري صنعته البشرية من اجل ازالة الحواجز عن مفهوم الله قبل ان يتحول الى مزيج من الالتباسات والافكار التاريخية التي قدمت مفهوم الله للعالم في عصر نيتشه.

في هذا المعنى تبدو تجربة الايمان لدي تجربة قلقة ودائمة التجدد وممزوجة دائما بمزيد من الحيرة والاسئلة. واني افضي اليك بأن معرفة الله حتى الطور الراهن من مسيرة الانسان ناقصة واني ارجح انها تتطور مع المسيرة الانسانية بحيث تغدو المعرفة الأكمل لله هي التتويج لمسيرة الكائن الانساني ولا معنى لأن تتم المعرفة الكاملة لله في مراحل لم يكتمل فيها الكدح الانساني في سبيل تحقيق تكامله في هذا العالم.

*هل استطيع القول ان التجربة الذاتية الخاصة في الإيمان كانت اساسية ومقررة بالنسبة لك؟

التجربة الذاتية الخاصة في الايمان اساسية جدا ولكن ليس في وسع الكائن ان يتجاهل التراث المعرفي للذات الالهية الطويل والمتنوع والمستمر عبر التاريخ. كأنه، كأي معرفة اخرى لا يمكن اصطفاؤها استنادا الى التجربة الذاتية فحسب وبمعزل عن تراث المعرفة المماثل او المشابه عبر التاريخ. غير ان المعرفة الذاتية هي الاهم هنا، اي ان كل الفلسلفات وعلم الكلام واللاهوت لا تكفي من اجل ان يشرق هذا اليقين في الذات الفردية.

لا يمكن تشكيل عصب الايمان بالله في غياب ما اسميه التأمل الذاتي الداخلي والتقاط ارهاصاته وذبذباته الخاصة جدا. كأن تجلس في مكان ما من الارض وتلفتك مجموعة من الورود وتشعر بنشوة خفية وانت تنظر اليها وتتساءل في داخلك: ما الحاجة الى مثل هذه الكائنات؟ هل هي ضرورية من اجل ان تستمر الحياة؟ من اجل ان يستمر وجود الانسان؟ هل انبثاق هذه الكائنات ظاهرة غير قصدية؟ وتراودك وانت تتأمل وتتساءل احاسيس مختلفة ثم يغلب عليها الاحساس بأن ثمة قصدية من وراء هذا الوجود الجميل الذي لا وظيفة له سوى اشباع احساسك بالجمال، فتستطيع بهذا التأمل البريء ان تتجاوز كماً هائلا من المعارف والفلسفات التي ركزت على ان الطبيعة معنية بتوفير استمرار الحياة واسبابها الضرورية. اذ ان وجود الزهرة، بهذا الجمال الباذخ، ليس ضروريا لاستمرار الحياة ولكنه ضروري من اجل توفير المعنى الذي يتجاوز مجرد البقاء والاستمرار الى اشباع حاسة الجمال عند الكائن الانساني. والكائن الانساني هنا يبدو، حتى الآن على الاقل، هو الكائن الذي لا تكتمل حاجته من الاوليات الطبيعية التي يوفرها العالم المادي، بل لا بد من اشباع حاجات وان كانت موجودة في هذا العالم المادي كالزهرة التي تحدثنا عنها، الا ان نمط العلاقة بينه وبين هذه الحاجات اسمى من نمط العلاقة بين الكائنات الحية وحاجاتها.

ثمة اذاً ما يتعدى هذا الوجود الطبيعي. ثمة سر لا يمكن الاقتراب منه خارج الاقرار بوجود سر عظيم في هذا الكون هو في التعبير الديني والمعرفة الدينية، الله المهيمن على هذا الوجود والذي يوفر للكائن الانساني هذه العلاقة الاسمى مع الوجود.

وسيلة للتحرر من الارتهان
* تأسيساً على هذا الكلام، لاحظت في كتابك انك تهتم اهتماماً شديداً بالعودة الى الاصول والينابيع، سواء في ما يتعلق بالتراث الإسلامي والنص الديني، او حتى في ما يتعلق بالنص الفلسفي الغربي. الأصولية مثلما تعلم تسمية تثير عدداً من المشكلات المعرفية. انا لا اتهمك بالأصولية، فالنص الذي بين يدينا، يزخر بالمعارف من كل حدب وصوب ويتعامل معها بروح من التفهم ونية صادقة في مساءلتها من دون ادانتها مسبقاً. لكن العودة إلى الينابيع والأصول لا تني تدق على عصب حساس لدي. هل تعتقد ان هذه العودة كانت ضرورية لاستقامة الأفكار والآراء التي تطرحها؟

الدعوة الى العودة الى الينابيع افضل وسيلة للتحرر من اشكال الارتهان والاستلاب التي تمت ممارستها تاريخيا باسم الدين. على النحو الذي لا يمكن فيه تصور نهضة ذات طابع شمولي في الاجتماع الاسلامي من طريق إحداث قطيعة كاملة مع التراث والدين وذلك مستحيل اساسا في سياق اجتماع انساني يستند الى هذا التراث الكبير. اذاً لا بد من الاخذ بخيارات من داخل الاعتراف بهذا التراث، وليس من بين هذه الاختيارات ما يمكّن الاجتماع الاسلامي من الدخول في مسار نهضوي جديد سوى العودة المباشرة الى الينابيع بما يجعلنا اكثر حرية في اقتراح صورة وجودنا مما لو كانت العودة الى ما بعد الينابيع اي الى التراث التاريخي البشري.

سأذكر هنا قولا للحكيم المفكر محمد اقبال وهو من كبار المعنيين بحركة التجدد الفكري والحضاري الاسلامي. يقول ان والده دخل عليه مرة وهو يقرأ القرآن فوقف الى جانبه يستمع اليه ثم قال له: يا ولدي عليك ان تقرأ هذا القرآن كما لو انه يتنزل عليك للتو. ماذا كان يريد محمد اقبال ان يقول وهو يروي هذه الحادثة؟ بالتأكيد كان يريد ان يشير الى ان الاعاقات الحقيقية امام الاجتماع الاسلامي لا تكمن في النص الاول اي في الينبوع الذي انطلقت منه الحضارة الاسلامية لكنها تكمن في تحويل المعرفة الدينية والتاريخية الى معرفة مقدّسة ويريد ان يقول ان هذه المعرفة بما هي حضارة وانجاز مهم، الا انها تحولت في حياة المسلمين الى مادة للتكرار ولكتابة الهوامش وللتفسيرات بدلا من المهمة الحقيقية وهي الابداع والاضافة الى هذا التراث. والحق ان ثمانية قرون من عمر التاريخ الاسلامي لم تتم اضافات ابداعية بقدر ما كانت هذه القرون ظرفا زمنيا لتكرار ومناقشة والانقسام حول ما تم ابداعه في القرون الخمسة الاولى من التاريخ الاسلامي.

اذاً خطاب العودة الى الينابيع ليس خطابا اصوليا بالمعنى السائد بل محاولة جديدة لتحرير العقل الاسلامي من غابة القيود التي تكبّله وذلك من طريق الاتصال بالينبوع الاول الذي هو القرآن واذذاك سوف يكبر رصيد الحرية في العقل الاسلامي وسوف تكون قدرته على الخلق والابداع والتجاوز متحررة من المصادرات التي مارست فعلها عبر القرون الماضية. كما ان هذه العودة سوف تمكننا من أن نقدم قراءاتنا التاريخية والنقدية للتراث الاسلامي بحرية عالية، وهي غير متاحة الآن امام العلاقة المعيقة القائمة بيننا وبين هذا التراث.

اقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين: الشيوعية سقطت بسبب عدائها للحرية والغائها للفرد

لا حداثة من دون هوية
*رغـم اقـرارك الـصـريـح فـي الـكـتـاب بـتـقدم الحـضارة الغربية انسانياً، إلا انك لا تلبث ان تضيف ان تلك الحضارة، التي تولي الحـرية الفـردية مكانتها العالية، تنقصها الغاية. هل تتلاقى في هذا المضمار مع القائلين بأن الإجتماع الإسلامي يملك حلولاً لكل المشكلات، ام تجد ان الحضارة الغربية تطرح على هذا الاجتماع تحديات كبرى لا قبل له بتجاهلها إذا اراد ان يأخذ بأسباب الحداثة والتطور؟

عندما نتحدث عما يشيع من مفاهيم تأخذ صيغة حركة نهوض جديدة على مستوى الاجتماع العربي والاسلامي، فإننا نتحدث عن ذلك في هذا العالم، في كل ما يلابسه وفي كل ما يحف فيه من تحديات ومن حوافز لا حدود لها، وفي مقدمها وجود حضارة غربية متقدمة استطاعت أن تحقق نموذجها في عالمها الراهن. وشئنا أم أبينا فإن هذا النموذج سيكون ماثلاً باصرار امامنا ونحن نتجه لاجتراح نهضتنا الجديدة.

ان الدعوة الى العودة الى الينابيع ليست مفصولة عن الاشكالات المتأتية من التماس مع الحضارة الغربية وتحدياتها. ولولا هذا التماس ولولا النموذج الحضاري الغربي ربما لم يكن في إمكاننا ان نحاول صياغة فكرة جديدة للعلاقة بالتراث والينابيع.

اريد ان اضيف اشكالية اخرى هي ان حركة النهوض على مستوى اجتماع كالاجتماع الاسلامي ذي تراث وحضارة فاعلة، لا يسمح باجتراح رؤية حديثة للنهوض او على الاصح لا يسمح باجتراح حداثة لا هوية لها ولا تاريخ ولا علاقة بينابيعها الاولى. كل الاحيائيين والنهضويين ادركوا انه لا مفر من التأثر بالعصر ولا مفر من انجاز صيغة تمكننا من الحضور في هذا العصر والتأثير والفاعلية فيه. لذلك انصبت اهتماماتهم على انجاز رؤية للتراث والينابيع تمكن من اجتراح المعاصرة من دون أن تنفي العلاقة مع هذه الينابيع. والحق ان أحداً من العاملين او المشتغلين في الحقل الفكري والنظري لاجتراح النهضة لا يستطيع تجاوز هذه الحقيقة، حقيقة العلاقة بالتاريخ والتراث.

القرآن الكريم توجد فيه حوافز ليست بالهينة وليست بالقليلة من اجل ان يكون المسلم قادراً على اجتراح الحضور في هذا العصر. اكثر من ذلك، القرآن هو وسيلتنا من اجل ان نستعيد بعضاً من ذلك الطموح الشامل للتأثير في صيغة انسانية شاملة وحلول انسانية لكل التعقيدات التي تواجهها الحضارات الانسانية بما فيها حضارة الغرب نفسه. لا بد من استعادة شيء من الثقة المهدورة برؤية الاسلام للانسان والحضارة والمجتمع وقد أضافت منجزات الحضارة الغربية في كل اطوارها وفي طور الحداثة الراهن وفي طور ما بعد الحداثة معطيات غنية جداً في وسع الخطاب الاسلامي استيعابها والذهاب بمحصلاتها الى النص القرآني، مما سيتيح قراءة جديدة لهذا النص بالمعنى الذي ينقل القرآن الكريم من نص للهداية نزل في القرن السادس الميلادي وضمن حضارات كانت قائمة في عصره. إن نصاً للهداية في هذا المعترك الحضاري الراهن يمكننا من الهداية الى اكتشاف المنهج الذي يوفر لنا فعل الحضور والتأثير والتفاعل مع هذا العالم. وفي هذه الحالة لا يكون النهج المفترض الذي سيتوافر ثمرة علاقة مع النص (اي القرآن) فقط بل سيكون ثمرة علاقة جدلية بين هذا النص ومعطيات العصر الحديث، وثمرة علاقة بين المرحلة الراهنة والمستقبل الذي يتطلع اليه هذا الجيل من اجيال التاريخ الاسلامي على النحو الذي يحقق ما اسميه الحداثة الاسلامية. لأننا لا يمكن ان نجترح حداثة بدون هوية ولا تستطيع العولمة ان تصهر الحضارات الانسانية في بوتقة حضارة واحدة، لأن مفهوم الانصهار رغم كل التقدم الذي تحققه العولمة كناية معدنية وليست انسانية.

ان أعلى اشكال الأممية وأكثرها تقدماً لن يكون قادراً على الغاء حقيقة التعدد والتنوع في الاجتماع البشري. ان تجدداً حضارياً في الاجتماع الاسلامي لا يمكنه ان يكون بمعزل عن خصوصيات هذا الاجتماع. وان حداثة اسلامية لن تكون حداثة بدون ملامح وهوية وخصوصيات.

* التركيز على الخصوصيات والهوية ضروري طبعاً. لكن الهوية والخصوصيات كما تعلم قد تشكلان السيف الذي يسلط على كل فكرة حرة. هل ثمة ما يمنع رجل دين من تخوين وتكفير اي كان بحجة المحافظة على الهوية والخصوصيات؟

لا يعني ما تقدم، وهو محاولة لرصد العلاقة بين ارهاصات التفكير بحداثة للاجتماع العربي الاسلامي وبين تراث هذا الاجتماع، ان هذا الاجتماع ونخبه المعنية ليست مطالبة وليست حرة في ان تقدم رؤيتها المستقبلية المتحررة من كل ما تعتبره مصادراً لمعرفتها ولتطلعها نحو اجتراح صيغ حرة كاملة للفكر والاجتماع معاً. بل لا بد من توفير اكبر قدر من الحرية ومن غياب المصادرات السلطوية دينية كانت او زمنية لتمكين المفكر من انجاز رؤيته الحرة الكاملة.

وهنا أود ان أشير الى ما ورد في الكتاب حول هذه النقطة اثناء الحديث عن شرط الحرية، حيث رأيت ان الحرية في الاجتماع وفي الاجتماع الاسلامي إما ان تكون وإما ان لا تكون. وكي يبدع الاجتماع الاسلامي صيغته الجديدة لا بد من توافر شرط الحرية بكامله. حتى لو أورد المعترضون عشرات البنود السيئة لشرط الحرية. فسيئات الحرية كما قلت خير من حسنات الاستبداد سواء كان سياسياً او اجتماعياً او دينياً. وتحرير العقل العربي من بنية الاستبداد هو شرط النهضة العربية الاسلامية بحرية لا قيد لها من خارجها لأن الحرية لا تقيّد الا بقواعدها.

من هنا دعوتي للمثقف العربي والنخبة العربية دائماً ان تجترح بصدق وجرأة صيغ رؤيتها ونظريتها من دون اي حرج وبشجاعة قد تكون مكلفة على الصعيد الشخصي، ولكنها ضرورية من اجل توفير شروط النهضة التي ما زالت تتأرجح إن لم نقل تتراجع رغم كل الحاجة الملحة لها. ان بنية الاستبداد افقر من احتمال قيام تيارات علمانية وإلحادية في مثل هذا الاجتماع، وهي بنية يتجلى فيها الاستبداد في وصفه نسيجاً متكاملاً يتداخل فيه الدين بالسياسة وبالقيم القبلية والماقبل البنية الحديثة لعالمنا المعاصر.

مهمتنا كمفكرين دينيين لا تنفصل عن مهمة السعي من اجل اجتراح الحداثة. بل تبدو لي هذه المهمة في جوهرها مهمة دينية وإن كان الامر الذي تتطلبه هذه المهمة هو المعطيات العملية والفكرية بغض النظر عن تصنيف هذه المهمة بأنها دينية او دنيوية، لأن الكائن الانساني هو كائن في هذا العالم ويريد تحقيق ذاته في هذا العالم وهذا ما لا يصطدم بالرؤية الدينية لغايات الحضور الانساني على هذه الارض.

كمفكر ديني ليس في وسعي ان اتجاهل فكرة الجنة التي وعد بها المؤمنون، وليس في وسعي ان افصل هذه الفكرة عن وجود الكائن الانساني على الارض. وقد خلصت الى نتيجة على هذا الصعيد بأن الكائن الانساني لا يستطيع ان يحقق حصوله على جنة السماء قبل حصوله على جنة الارض، اي ان انجاز جنة الارض شرط لاستحقاق جنة السماء، فتعالوا نبحث عما يوفر هذه الجنة على الارض. كل انجاز من شأنه ان يمهد السبيل امام هذه الجنة سوف يغدو انجازاً في جوهره متصلاً بالحقيقة الدينية حتى لو بدا ان مادته محايدة وبشرية ولا علاقة لها بالدين.

اقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين: الفقر ليس السبب الأول للطلاق!

تقويض شرعية المؤسسة الدينية
*لا بد وانك تعلم ان السلطات الدينية بالغة التأثير وتكاد تكون كلية القدرة على منع اي فكرة حرة من التنفس إذا ما ارتأت ذلك من خلال سلطاتها الهائلة. لنتذكر نصر حامد ابو زيد في هذا السياق. وما دمنا قد ذكرنا الرجل: ما السبيل إلى اعادة الاعتبار لنصر حامد ابو زيد في وصفه مفكراً اسلامياً ونزع صفة المفكر الإسلامي عن المئات من المشايخ الذين لا يجيدون غير لغة التكفير والنبذ؟

لا يوجد نص صريح يتعلق بسلطة المؤسسات وابرز ما تم صناعته هو ما يسمّى رجل الدين في الاسلام والمؤسسة المرتبطة برجل الدين في الاسلام. اذاً نحن امام حقائق تشكلت عبر التاريخ وهي حقائق مؤثرة تأثيراً كاملاً في الاجتماع الاسلامي ونحن نزعم ان اعادة الاتصال بالينابيع هو في بعض اهدافه منهج لتقويض شرعيات تاريخية وليست دينية. ليس في وسع كل الاقلام وخطب الحداثة في عالمنا العربي ان تقوض شرعية مؤسسة دينية بخطابها المنفصل والقادم من مكان آخر. ولكن في وسع عودة منهجية ومدروسة للخطاب الاول، اي للقرآن الكريم، الذي تتوافر فيه كل المعطيات التي تؤكد وجوب تحرير الكائن والاجتماع الانساني من هيمنة الكهنة واطلاق حرية الكائن الانساني الذي خلقه الله ليكون خليفة له على الارض. في وسع هذا الخطاب القرآني ان يقوض الكثير من شرعية المؤسسة الدينية التي تم استحداثها عبر التاريخ وتحولت الى حقيقة صلبة من حقائق الاجتماع ولم تعد قابلة لاعادة النظر بما ينسجم مع مبادئ الاسلام نفسه في وصفه ديناً وليس مؤسسة، وفي وصفه دعوة لتحرير الكائن الانساني من كل الاعاقات والمصادرات التي تعرض ويتعرض لها عبر تاريخه.

بدون الذهاب الى الاساس الشرعي الذي تقوم عليه المؤسسات الدينية كيف يمكن ان نجادل بشرعية هذه المؤسسات او ان نستعيد لها حدود الدور الذي يجب ان يضطلع به العالم الديني وليس رجل الدين. فعالم الدين صاحب معرفة في الدين لكن معرفته لا تعطيه سلطة ولا امتيازاً محدداً. هو كادر ديني ثقافي معرفي، ولكنه مواطن يتساوى في حقوقه وواجباته مع المواطنين الآخرين.

*احسب ان فكرتك عن اسلام علماني اتضحت لي الآن…

من وجهة نظرنا لا يوجد اسباب حقيقية للخلاف بين العلمانية والاسلام، وذلك طبعاً عندما نتحدث عن العلمانية المجردة عن نماذجها التاريخية كالعلمانية الملحدة. والالحاد ليس في اساس العلمانية على الاطلاق. ان العلمانية في جوهرها محاولة انسانية للقول ان الحقيقة مصدرها هذا العالم وذلك في مواجهة المؤسسة الدينية التي كانت تحتكر النطق بالحقيقة سواء منها الدينية او العلمية او الاجتماعية. وليس بعيداً عن الذاكرة موقف الكنيسة من نظرية دوران الارض حول الشمس، حيث بدا ان المؤسسة الدينية استناداً الى سلطتها الدينية توسعت في امتلاك سلطات لا شأن لها بها، فقامت العلمانية لتحرر الانسانية من هذه السلطة ولتفتح باب المعرفة والتفكير الحر والبحث عن الحقائق اهتداء بالهبة الاسمى من الله للانسان اي العقل.

لماذا اذاً يكون المسلمون اعداء للعلمانية؟ ولماذا لا يكون الاسلام نفسه طوراً من اطوار الدعوة للعلمانية بما هي عودة الى العقل الحر قبل ان تستلبه المؤسسات الاجتماعية والسياسية والدينية؟

(جريدة النهار – الأحد، 28 أيلول 2003)

السابق
بخاري: رفع الحظر عن زيارة السعوديين إلى لبنان فور تشكيل الحكومة
التالي
لقاء موسع لمناقشة مشروع «منتدى التكامل الإقليمي»