صورة الجيش والشعب كما يركّبها حزب الله

تظاهرات احتجاجات اعتصامات
حين دفع الضابط اللبناني الجندي الإسرائيلي إلى التراجع إلى ما وراء الشجرة عند الخط الحدودي، تعامل الجميع مع الحدث كانتصار مكتمل الأركان على العدو الإسرائيلي، وبدا وكأن الجيش اكتشاف باهر يحتفى به تأسيسا على الانبهار الذي يرافق كل لحظات الاكتشافات الكبرى وما تحويه من جديد.

بعد ذلك وجدنا الجيش يضرب الصحافيين والمتظاهرين في شوارع العاصمة بشكل عنيف اختلف في تفسير أسبابه ودوافعه، حيث ذهب البعض إلى اعتباره فعلا طبيعيا يقوم به الجيش ضد المشاغبين والمخربين، بينما رده البعض الآخر إلى عناوين خفية تقف وراء التظاهرات في لحظة فشل الجهود المبذولة للإفراج عن الحكومة، وبأنها تستهدف جميع القوى السياسية ما عدا العهد كما صرح أحد نواب التيار الوطني الحر، بينما رأى آخرون أنها لا تستهدف أحدا سوى العهد نفسه.

في ظل كل هذه المعمعة تبدد الاكتشاف الباهر لوجود جيش يرابط على الحدود ويصنع الانتصارات، واختفت تلك الصورة لتحل مكانها صورة مغايرة تماما تجعل من الجيش أداة قمع في يد سلطات مجهولة الملامح والهوية، ولكن المعالم التي وسمت تأييد قمع المظاهرات المطلبية كشفت عن تنازع السلطات وتضاربها، في محاولة انتزاع شرعية تحاول البناء على ما كان الجيش قد اكتسبه من شرعية في مشهد الحدود، لتبني إجماعا حول شرعية قمع النزوع المطلبي عموما، وتدبير شؤون رده إلى الشغب والتآمر.

أجمعت السلطات المتضاربة على شرعنة القمع كونه بات الإطار الذي يضمها جميعا، على الرغم من صراعاتها الحادة، فقد ظهر وكأنه الصيغة التي تؤمن لها الاستمرارية.

اقرأ أيضاً: الجمهور العوني مستاء وجمهور حزب الله يهاجم باسيل

هكذا لم يعد هؤلاء الذين ينفذون القمع أفرادا معزولين يمكن تبرير تصرفاتهم بحيثيات الميدان وما يتطلبه من تصرفات قد ترد إلى خصوصية إدارة أحد الضباط لموقف محدد في سياق محدد ومحدود، بل تحول هذا السلوك إلى ما يراد له أن يتطابق مع فكرة السياسة ومعناها ومع آلية انتظام عمل المؤسسات.

تم رد فعل القمع الى بنية مؤسساتية لطالما عملت البنى القائمة وخصوصا الحزب الالهي الحاكم في لبنان على تفكيكها، وتم صناعة صورة للفعل المؤسساتي المرتبط بالدولة على أنه منتج لآلية تحويل لا يمكن معها للقمع أن يكون قمعا في حال كان الجيش هو من يقوم به.

من هنا فإن النتائج الخطيرة المترتبة عن مثل هذا السعي تتمثل في أن المطالب المشروعة التي كان المتظاهرون يشهرونها، والمرتبطة بالوضع الاقتصادي وضيق سبل العيش لم تفقد شرعيتها وحسب، بل تحولت إلى مؤامرة تقف حائلا ضد استكمال مشروع الدولة الذي يشكل القمع عنوانا للدفاع عنه.

ما تؤديه هذه المعاني هو جمع نفيين فالجيش في هذه الحالة لا يعود ممكن الوجود بالنسبة للناس، وكذلك فإن الناس لا يمكنهم أن يكونوا مواطنين في نظر قوات الجيش.

و كان لافتا أن حزب الله الذي يرفع حاليا لواء الخطاب المطلبي وعنوان مكافحة الفساد مؤخرا كان ضد التظاهرات عموماً، وخصوصاً أن زخمها الدلالي الأبلغ كان في المناطق الخاضعة لنفوذه حيث برز خطاب يحمل انزياحا واضحا عن خطابه من قبل جمهوره الصانع لانتصاراته الميدانية والانتخابية.

القمع المباشر لم يصب أبناء تلك المناطق بل انحصر في بيروت وكذلك أعمال الشغب، في مشهد يقول إن العاصمة التي تريّفت وفقدت معالمها، يمكنها حاليا أن تؤدي وظيفة احتضان مشهد القمع بغية تعميم مداه ونشره في كل مفاصل البلاد.

المشهد الآخر الذي طفا على سطح صورة الجيش مؤخرا والذي يسمح لنا تحليله بإكمال الدائرة الدلالية المرتبطة بصورة الجيش كما يركبها الحزب هو مشهد قيام أحد ضباط الجيش بتوقف نجل أحد نواب حزب الله ومصادرة سلاح حربي كان في حوزته، فقد كانت ردة فعل النائب على توقيف نجله واضحة الدلالة على سيطرة مزاج النفي التام لصورة الجيش ما لم تكن بنتا للتوظيف المسبق الذي يدرجها في عداد تركيب دور محدد ينفي صفاتها أساسا.

قال النائب الإلهي “يا أنا ببطل نائب يا انتا بتبطل ضابط” وقد منحتنا هذه العبارة كنزا تأويلا شديد الوضوح في دلالاته، فلقد اختصر النائب إيهاب حمادة دروب التحليل الشائكة وأعلن ببساطة أن وجود الضابط في المؤسسة، وبشكل أدق أن هويته كضابط في الجيش اللبناني لا يمكن أن تكون ولا أن تستمر ما دام مصرا أن يكون ضابطا، وأن يمارس ما يفترض بأي ضابط في جيش شرعي في دولة شرعية أن يقوم به من استعمال مشروع لسلطاته في وجه أي مخالف مهما علا شأنه.

يقول حمادة للضابط إنه عليه ان لا يكون ضابطا بأي شكل من الأشكال لكي يمكنه البقاء في المؤسسة العسكرية، وما لم يفعل ذلك فإنه يهدده بما ليس أقل من الإهانة و النفي التشرد.

إذن نستنتج بوضوح أن الصور التي يرسمها حزب الله للجيش تصب جميعها في نفيه تأسيسا لنفي الشعب، لأنه في ظل وجود جيش وشعب فإن تلك الثلاثية التي يروجها ، والتي تضم إضافة إليهما الركن الفاعل أي المقاومة تصبح مستحيلة.

هكذا تقوم بنى الاستعارات التي يبرع في توظيفها بمهماتها فالجيش على الحدود كان يستعير مهمة المقاومة لحظويا ويكتسب شرعيته من خلال هذه الاستعارة التي لا تدل على لصوق الصفة به، ولكن على أنه يمكن أن يلبسها أحيانا كنوع من التشبه بأصحاب الفعل الأصلي أي المقاومين، ما يمنحه شرعية يمكن إطالة أمدها ارتباطا بمدة بقائه داخل دائرة الاستعارات.

في ما يتعلق بالقمع فإن الجيش يتحول وفق السياق الذي يرسمه له الحزب الى مؤسسة تضبط هؤلاء الذين لا يريدون ان يكونوا شعبا ضمن ترسيمة الثلاثية، وفي المشهد الثالث حيث يحاول الضابط ممارسة عمله الفعلي وسلطاته التي يجب أن يمارسها فانه يتحول إلى خارج على القانون وإلى مارق ويسقط خارج الدائرة الثلاثية.

اقرأ أيضاً: بين «الصمت الحكومي» وتراشق المسؤوليات.. إلى أين يتجه ملف التشكيل؟

حين يُلفظ ضابط من المؤسسة العسكرية فإنه لن يستطيع أن يكون من الشعب بعد الآن وبالتأكيد لن يكون من الجيش ولا من المقاومة بل سيصبح الكائن المستحيل الوجود، الذي يريد له حزب الله ان يكوّن صورة الجيش التي تتماثل تماما مع صورة المرضى الذين يموتون على أبواب المستشفيات، أي الكائنات المهزومة التي تستجدي وجودها وأمنها واقتصادها من سلطات لم تتتظم بعد.

يعد كل ذلك العدة لما يبشرنا الحزب به من أن كل السلطات المتشظية ستميل قريبا إلى الانتظام في هيئة ثابتة ما أن يصبح هو الدولة نفسها، وساعتها فإنه لن يكون هناك من ضرورة لكل لعب المصطلحات الذي لا يزال قائما حاليا، حيث سيصار إلى إلغاء الجيش والشعب من المعادلة والإبقاء على المقاومة التي لديها جيشها وشعبها ودولتها، وهي تاليا قادرة على تمثيل عناصر الثلاثية المقدسة والصانعة للشرعيات خارج ما نسميه حاليا بالجيش وخارج هذا الشعب الذي لا زال يطلق عليه حتى هذه اللحظة اسم الشعب اللبناني كنوع من الكناية التي لن تكون صالحة للاستعمال في القادم من الليالي الإلهية المظلمة.

السابق
نهاية الجمهورية على أيديهم!
التالي
تعميم الى البقاعيين.. منخفض جوي آتٍِ وهذه الإجراءات ضرورية