سوريا: الانسحاب الأميركي بين الرغبة وصعوبة التنفيذ

يؤكد القرار المفاجئ الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب القوات الأميركية بشكل كامل من سوريا على التناقضات الحادة داخل الإدارة الأميركية، وعلى حقيقة أن السياسة الخارجية باتت خاضعة لرغبات وأهواء الرئيس الأميركي الذي بات يحصر كل تفكيره في كيفية إعادة انتخابه بعد عامين من الآن.

تعارض كل من المؤسسة العسكرية والاستخبارات الأميركيتين الانسحاب من سوريا، وهو ما ظهر منذ إعلان ترامب نيته سحب قواته قبل نحو عام. في ذلك الوقت نجحت المؤسستان بالضغط على الرئيس الأميركي وإقناعه بالبقاء في سوريا لعدد من الأسباب. يأتي في المقدمة استمرار قتال تنظيم الدولة الإسلامية، بالإضافة إلى عدد من التنظيمات الجهادية عبر دعم قوات سوريا الديمقراطية. إذ تعتبر كلا المؤسستين أن الإستراتيجية الأميركية تعمل بصورة جيدة، وذلك بعد أن نجحت في هزيمة التنظيم المتطرف في جميع المدن والبلدات الرئيسية، حتى بات يتواجد في جيوب معزولة لا تشكل تهديدا حقيقيا في الوقت الحالي.

اقرا ايضا: ديمقراطيون وجمهوريون ينتقدون قرار ترامب المتسرّع بالانسحاب من سوريا

ويضاف إلى النجاح العسكري تواضع التكلفة الاقتصادية بما يجعل الحملة العسكرية الأميركية الأقل تكلفة والأكثر فاعلية منذ بداية عصر “الحرب على الإرهاب”. ففي حين كلفت حرب الولايات المتحدة على العراق نحو 570 مليار دولار، وحربها على أفغانستان نحو 590 مليار دولار، بلغت تكلفة الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في كـل من سوريا والعراق نحو 23 مليار دولار، تعتبر حصة العمليات الأميركية في سوريا منها متواضعة نسبيا.

وفضلا عن الأهداف قريبة الأمد، هنالك مصلحة أميركية إستراتيجية بالتواجد في شمال سوريا بصورة دائمة طالما بقيت التكلفة الاقتصادية والبشرية متواضعة. فمن جهة، تشكّل إقامة قواعد ومطارات عسكرية أميركية فرصة هامة بعد تدهور علاقات واشنطن وأنقرة وإغلاق الأخيرة لمنشآتها العسكرية في وجه واشنطن أثناء حملتها العسكرية في سوريا والعراق. ومن جهة أخرى، يعتبر التواجد العسكري الروسي والإيراني في سوريا والعراق دافعا كبيرا لزيادة التواجد العسكري الأميركي في المنطقة. ولهذا السبب بالذات كان قرار زيادة التواجد العسكري الأميركي في سوريا والعراق قد اتخذ في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، وخصوصا بعد التدخل العسكري الروسي في العام 2015، وذلك ضد سياسته التقليدية المناهضة للتدخل العسكري.

بهذا المعنى، يتجاهل قرار دونالد ترامب الإستراتيجية التي وضعتها المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات الأميركيتين ويعبّر عن حقيقة اتجاه السياسة الأميركية في الوقت الحالي لتصبح رهينة لحساباته الخاصة، وبشكل خاص التخطيط لإعادة انتخابه للولاية الثانية في انتخابات ستجري بعد عامين من الآن. وهو ما يفسر ربطه لقراره الأخير بتنفيذ وعد انتخابي كما قال في إحدى التغريدات التي بررت الانسحاب. كما يتضح ذلك من ردود الأفعال المنتقدة لقرار الانسحاب حتى ضمن الحزب الجمهوري الذي نجح الرئيس في تدجينه، بدلا من أن يحدث العكس كما توقّع كثيرون بعد انتخابه.

يدفع ذلك للاعتقاد بأنه ورغم نبرة الحسم التي أراد ترامب إظهارها مع إعلان قراره الأخير، من الممكن أن لا يجري تنفيذه بصورة كاملة. هنالك حقائق عسكرية وسياسية شديدة التعقيد تزيد من المعارضة الداخلية لتنفيذ القرار. أكثر تلك الحقائق مباشرة وإلحاحا هي استمرار المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية حتى اليوم إذ ينجح التنظيم، بين فترة وأخرى، بشن هجمات مضادة على قوات سوريا الديمقراطية في شرق سوريا.

ولكن بالمقابل، قد يكون هنالك جانب آخر لقرار الرئيس الأميركي لا يتعلق بحساباته الشخصية الضيقة وإنما بطبيعة التواجد العسكري الأميركي وعدم إمكانية استمراره على الشكل الحالي. إذ يعتبر هذا التواجد العسكري هشاً من الناحية الإستراتيجية بسبب اعتماده بصورة تامة على حليف عسكري ذي قاعدة شعبية ضيّقة محصورة بالأكراد، ويمتلك عداءات مع كامل محيطه الجغرافي وجميع اللاعبين.

ويشمل ذلك روسيا وإيران والنظام السوري وتركيا، فضلا عن الميليشيات العسكرية المتواجدة على الأرض والتابعة لكل طرف. يضاف إلى ذلك أنه، وفي الأشهر الماضية، اتضح ضعف التأثير الأميركي على قوات سوريا الديمقراطية التي رفضت، ولا تزال، الانسحاب من مدينة منبج السورية ما تسبّب بتوتر شديد مع أنقرة وتهديدها لشنّ حملة عسكرية على المدينة.

بهذا المعنى، ورغم أهمية استمرار التواجد العسكري الأميركي في شمال سوريا، لا بد من خطوة جريئة لإعادة نسج التحالفات العسكرية والسياسية للولايات المتحدة في المنطقة بصورة واسع وبشكل مرتبط بالمستقبل السياسي للبلاد. قد يؤدي قرار دونالد ترامب بالانسحاب إلى ذلك السيناريو إن لم يكن مدفوعا بصورة تامة بحساباته الخاصة في ظل تسليم تام للمؤسستين العسكرية والاستخباراتية في واشنطن.

السابق
إغلاق العديد من الإدارات في اميركا بعد فشل المفاوضات بين الكونغرس وترامب
التالي
أي فوضى فعلها ترمب؟