صفعة على خدّ الوطن

اصطحبني والدي لكي نملئ غالونات مياه الشرب كما كان سائداً وقتها. كانت مياه الشرب غير متوفرة في المنازل ولم تكن متوفرة قارورات المياه الكبيرة التي نعرفها اليوم في المتاجر بعد، وقارورات المياه الصغيرة المعروفة كانت غالية الثمن نسبياً فيستحيل اعتمادها للعائلات وللاستهلاك اليومي في البيوت.

أذكر وقتها أن معظم الناس كانت تقصد أماكن عدّة داخل أحياء بيروت: عند زاوية طريق، أو على حافة رصيف أو في مداخل أبنية صدف أن تكرّم أصحابها لوفرة مياه الشرب فيها، أن يقصدها الناس لتأمين مياه الشرب، فيملؤون غالوناتهم سواء من حنفية أو خرطوم مياه، وعلى مدار الوقت يصطف الناس حتى يأتي دورهم، وغالباً ما يكون الانتظار شاق وطويل نظراً لكثرة الغالونات أو لضعف ضغط الماء أو بسبب الفوضى التي كانت تحكم كل تجمع. فالفوضى كانت سمة تلك المرحلة، انها ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
الى جانب الطريق المؤدي لساحة الغبيري وتحديداً عند مفرق مستشفى الساحل، تدلّى خرطوم ماء، علّق طرفه بقسطل مكسور زعموا أنه من أثار شبكة مياه بيروت الصالحة للشرب. وصلنا وأخذنا دورنا في صف طويل من الغالونات، غالونات مختلفة الأحجام والألوان تسلسلت كحبات سبحة أو عقد، والى جانب كل غالون وقف مواطن ينتظر دوره كي يصل الى هذا الخرطوم اليتيم يروي به عطش عائلته. دقائق قليلة ليصبح الصف كذيل طويل من عشرات الامتار فقَدَ استقامته وراح ينحرف نحو زاروب كي لا يعيق طريق السيارات.
انها الثانية بعد الظهر وحرارة صيف بيروت من عام 1988 كانت استثنائية وقتها، وما زاد الطين بلّة ضعف ضغط الماء في الخرطوم فيستغرق غالون الماء ليمتلئ دقائق عدّة وانتظار مرّ، فلم يكن أمام المنتظرين حيلة سوى الصبر تحت اشعة الشمس الحارقة، ورحمة خرطوم شحّ ماؤه.

اقرأ أيضاً: ماذا بعد الموت؟

الحرارة العالية جداً وعقلية الاستفزاز والاستقواء أتت بأحد حراس المركز السوري المجاور، فالمركز يقع في بناية بنك “مبكو” من الجهة المقابلة للزاوية التي نصطف بها والحارس وجد بالماء ملاذه ليخفف من حدة حرّه ومناسبة لاظهار بعضاً ممّا عنده.
أتى الحارس العسكري السوري العشريني وسحب خرطوم المياه من الغالون دون ادنى استئذان من صاحبه، وجلس على حجر قريب، خلع حذاءه، وراح يرش الماء على قدميه بكل برودة واستخفاف وينقّل الخرطوم فوق رجليه اليمنى ثم اليسرى ثم يغسل يديه ويعود بعدها ليبرّد قدميه من جديد أمام قلوب تحترق، دون أن يقيم أي اعتبار لا لندرة الماء ولا لوقت الناس ولا لمشاعر عشرات الواقفين المنتظرين وأمام أعينهم.
لم يتجرأ صاحب الغالون الأول من الانسحاب خشية أن يشعر السوري أنه امتعض من سلوكه، كانت المسافة التي تبعدنا ووالدي عن أول الصف مسافة نحو 5 أمتار أو ما يعادلها فترة انتظار لامتلاء عشرين غالون، وفي وسط تلك المسافة تقريباً وقف رجل ستيني يستحيل أن أنسى صورة وجهه الأحمر المتعرق من شدة الحر والغضب، حليق الذقن، بدت عليه ملامح الاناقة والترتيب، بدا أنه عائد من وظيفته ببذته الكحلية الانيقة وربطة عنقه الحمراء.
استمر العسكري في استفزازه للناس ممعناً ومصرّاً على اذلال هؤلاء المضطرين لنقطة الماء، استباحنا طويلاً. ولم يجرؤ أحد حتى على النظر اليه نظرة اعتراض. مضت دقائق طويلة لم تنته الا بعد أن قرر هذا الرجل الوقور أن يقطع صمت الموجودين ببعض الكلمات، وقال له:
“أخبرنا يا سيدي ان كنت تنوي الاطالة باستخدام الماء، حتى نعرف ان كان علينا الانتظار او الرحيل”.
هذه الكلمات القليلة كانت كافية لترجّل هذا الوحش والتوجه نحو الرجل، وبكل وقاحة رفع يده وصفعه صفعة قوية جداً على وجهه، وأذكر أن دمعته كانت أسرع من قدرته على كظم الغيظ.
أمسك أبي بذراعي بقوة، شدّني ومضى بي نحو سيارتنا المركونة في مكان قريب دون ان ينبس ببنت شفة، ومثله فعل كل الواقفين، فكل واحد مضى من اتجاه، ما هي إلا لحظات قليلة حتى خلا المكان. صعدنا السيارة، نظرت الى الخلف فلم يبق هناك سوى صمت الهاربين وصف طويل من الغالونات تركها اصحابها ورحلوا، وذئب شبع من فريسته وجلس يستريح، وذاكرة لم تمح لمرحلة كان الخوف فيها شريك حياتنا.
حين روى والدي الحادثة مساء ذاك اليوم غرقت عيناه بالدمع حين قال، عسى أن لا تكون هذه الصفعة -على خدّ الوطن- قد قضت على هذا الرجل.

السابق
«الجنجويد» العرب
التالي
اعتقال عشرات المعلمين المحتجين على تردي أوضاعهم في إيران