السيسي لشعبه السمين: ده كلام؟

عبد الفتاح السيسي

اكتشف ما بعد البنيَويين، الجسد، أو بالأحرى وضعوه في المركز من المؤسسات الاجتماعية، وكهدف لعملياتها، ومحور لصور الإنتاج والاستغلال المقترن به، والساحة التي تتصارع فيها قوى الغواية والضبط واللذة والتأديب. لكن، وإن كان الجسد تاريخياً موضوعاً للوشم والتصنيف والعناية والعقاب، كما نراه في “الجيمانزيوم” الأثيني (نسبةً إلى أثينا) والأديان الإبراهيمية، فإن النقطة الفارقة في الحداثة كانت تحول الشعب إلى سكان، يمكن قياسهم رياضياً، وتصنيفهم وتحويلهم إلى معاملات رقمية في مصفوفات للتنبؤ ومعادلات للتشذيب.

فبفضل الإحصاء، والعلوم الامبيريقية، وتوسع بنية بيروقراطية الدولة، لم يعد الجسد مجرد حامل لعلامات السلطة، بل الموضوع الرئيسي للسياسة–الحيوية. أضحت الدولة معنية بتنظيم العمليات البيولوجية، والتدخل فيها وضبطها، الميلاد والموت والأمراض والصحة العامة والسكن والتغذية والإنجاب والعلاقات الجنسية والشيخوخة وغيرها. وفي هذا كله، كان الهدف دائماً، في منظومة رأسمالية، هو خلق الجسد المثالي، لمجتمع قادرعلى الإنتاج بأقصى طاقته وبأقل كلفة ممكنة.

اقرأ أيضاً: سوريا أرض كل الحروب والمواجهات

وجاء القرن العشرون بتطبيق لأقصى صور السياسة الحيوية بشاعة، باستئصال الأجساد “غير الصالحة”، وإبادة غير القياسي منها جينياً، والتعقيم الإجباري لغير المرغوب في صفاتهم الوراثية. ولم تكن “اليوجينية” النازية هي النموذج الوحيد، وإن كانت أكثرها دموية. فأنظمة الكتلة الشرقية كانت قد وضعت معايير شمولية لتنشئة الجسد المثالي وتمجيده، وليس هناك أدل على المعنى الجديد للجسد وحلوله بدلاً من الروح في الجماليات الستالينية، من رمزية تحويل الكنائس إلى صالات للألعاب الرياضية.

وحين يتبرم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، مرة بعد أخرى، من الوزن “الزائد” للشباب، والنسب العالية للسمنة بين السكان، ويمازح رئيس حكومته بخصوص وزنه، مؤنباً إياه، فإنه لا يبعد كثيراً من مخيال مستقر وبراغماتي، يرى في أجساد السكان غاية للسلطة وموضوعاً للحكم.

لكن مفهوم الرئيس عن دور الدولة في عملية إنتاج الجسد المثالي، تبدو مختلفة عن مواريث الدولة المصرية. ففي الحقبة الناصرية، والتي شهدت توسعاً في الخدمات الصحية والإسكان وشبكات المياه والصرف الصحي، والتأميم الذي طاول المؤسسات الرياضية والتربية البدنية في المدارس، كانت الدولة تطمح لأن تكون الراعي والمنتج الوحيد لمعايير الجسد الصحيح القادر على الإنتاج وحمل السلاح والاستمتاع بثمار الإشتراكية.

وليس هناك نموذج أكثر فجاجة في هذا الشأن من مشروع “مديرية التحرير” في الخمسينات من القرن الماضي، حيث كان الفلاحون والعمال يبدأون يومهم بتأدية التمارين الرياضية تحت إشراف بيروقراطيي الدولة، من مشرفي التربية البدنية والاختصاصيين الاجتماعيين. ثم تداعى المشروع سريعاً، مع مزارعه شبه الجماعية، واحتاج دور الدولة في رعاية الأجساد ووضع معاييرها وقتاً أطول، أي بضعة عقود، قبل أن يتحول إلى منظومة الحد الأدنى.

وكما اكتشف ما بعد البنيَويين، الجسد، فإنهم أيضاً اكتشفوا “العناية بالذات” بوصفها محور عمليات إدارة المجتمع الرأسمالي. فالسلطة لم تعد في حاجة إلى التشذيب القسري، أو القيام بدور المنتج المباشر لأنواع بعينها من الأجساد. فقيم المسؤولية الفردية وضعت الجسد والعناية به في قلب النيوليبرالية. أضحت هناك صور لأجساد جالبة للعار، وأخرى مرغوبة ومشتهاة، تُفرض من الداخل عبر آليات للإغواء واللذة الاستهلاكية، وليس بسُلطة مباشرة.

تنتج المؤسسات صوراً نموذجية للقوام الممشوق والأجساد الممتلئة بالصحة، وتفرض هوساً بالوصول إليها وشعوراً مريعاً بالذنب والعار الاجتماعي لدى من هم غير قادرين على تحقيقها.

يتغافل الرئيس السيسي عمداً عن دور الدولة في توفير الخدمات الأساسية اللازمة للصحة العامة، وعن العلاقة المثبتة بين الفقر وأمراض السمنة، ولا يدعو مثلاً إلى مراجعة حصص التموين الحكومي التي تفرض بها الدولة على المحرومين منظومة غذائية غير صحية، ولا للنظر في النقص الشديد في ميزانيات المؤسسات الرياضية المتاحة للجمهور وللتربية البدنية في المدارس. يكتفي الرئيس كالعادة بلَوم المواطن، بحصر المسؤولية في الفرد، وتوجيه النصح الأبوى للمواطنين المقصرين في حق أنفسهم، “الناس مش واخدة بالها من نفسها ليه؟” تلخص حكمة الرئيس وسياسية حكومته، سواء في ما يخص الجسد أو أي شأن آخر.

السابق
وزارة الصحة: هذا ما حصل مع الطفل محمد وهبي
التالي
ما مصير المنطقة مع تقاطع المصالح الأميركية الروسية؟