كتاب: «التّوحُّد الكونيُّ في القرن الهجريّ الأوّل (دراسة)» لـ محمد عقل

هذا البحث، من حيث الشكل، يرتبط باختصاص اللغة العربية وآدابها، بيد أنه من حيث العمق، يرتبط بمنظومة معرفية متكاملة العناصر، متجانسة الأبعاد، تشتمل على مكونات تستمد مداها من علوم الأديان، ومن الفلسفة والتصوّف، ومن علمي الكلام والمنطق، فضلاً عن علمي التاريخ والجغرافيا، وعلمي النفس والاجتماعي، وهذه المنظومة برمتها لا يستقيم أمرها، من دون ذائقة فنية، كانت سمة من سمات الإبداع في شخصية الراحل العبقري.

“أهمية هذا العمل أنه يُعيد بناء هيكلية المعرفة الدينية بواقعية، ويُعيد ترميم الذّاكرة، العربية، والأهم أنه يبني توحيداً عقلياً ومفاهيمياً جديداً لمستقبل العرب”.

هكذا عرَّف البحاثة اللبناني الراحل الدكتور محمد عقل كتابه (الصادر بعد رحيله): “التوحُّد الكونيّ في القرن الهجري الأول (دراسة في المصطلح والمفهوم والأبعاد)”. وهذا التّعريف هو الذي صُدِّر به هذا الكتاب الذي هو أطروحة نال بموجبها المؤلِّف شهادة (الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها). و”التوحُّد الكوني في القرن الهجريّ الأوّل”، صدر حديثاً وفي طبعة أولى 2018 عن موقع “النقطة” (Alpoint.net) (بيروت الكولا – عمارة النصر – أول طلعة جامعة بيروت العربية) ويتولى توزيع هذا الكتاب “دار الفرات للتوزيع والنشر، بناية بخعازي – رأس بيروت).

ولقد قدَّم لهذا الكتاب عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية الأستاذ الدكتور محمد أبو علي، وهو الذي أشرف على هذه الأطروحة القيّمة.

اقرأ أيضاً: خالدة سعيد تعالج تحوّلات حداثويّة في ‌«أفق المعنى»

ويتألف متن الكتاب، من أبواب ثلاثة يتقدّمها مدخل عام للبحث، ويليها، خاتمته ونتائجه. والباب الأول يتمحور حول: “أصول الألوهة والتّوحّد في المشرق العربي”، وهو من فصلين: الفصل الأول مدموغ بـ”فكرة الألوهة/ مقاربات أولية”؛ والفصل الثاني يُظهرُ كيف أن: “التوحيد يمهّد للتّوحُّد الكوني”. والباب الثاني، يعالج مسألة: “التّوحُّد انزياح في المفهوم”. وذلك على مدار فصلين: الفصل الأول هو بعنوان: “مفهوم التّوحّد الجديد”؛ والفصل الثاني: مداره “الحقلُ التَّوحُّديُّ الكونيُّ المتّسع”؛ والباب الثالث (والأخير): يخوض في “التَوحّد وأبعاد النظام الكونيّ”؛ وقوامه فصلان: و”التّوحّد في منظومة الرؤية القرآنية” يعرضه الفصل الأوّل؛ و”الأبعاد المفتوحة لدوائر التّوحّد الكونيّ” يستعرضه الفصل الثاني.

محمد عقل

وجاء في خاتمة “المدخل العام” للكتاب: إن دراسة “التوحّد الكوني” لم تبحث في تراكيب وآليات وتقنيات مسلمات الرؤية القرآنية، والنص القرآني، وتعاطت الدراسة – البحث مع النص القرآني كمسلّمات انطلقت منها مستهدفة “التوحّد” كمعطى حضاري. فعالج البحث المصطلح والمفهوم في القرن الهجري الأول، وتطرّق في الأبعاد إلى ما صار، وما يمكن أن يصير ويكون في الحاضر والمستقبل. لذلك فالبحث هو دراسة جادّة تبدأ من مرحلة سبقت القرن الهجري الأول، وركزّت على انزياح المعنى. ثمّ استمرت تبحث الأبعاد التي تترتّب عليها معالجة الموضوع التوحّدي في الرؤية المستقبلية، ووضعت الدراسة منهجاً علمياً لذلك.

من هنا كانت “خطة البحث في الكتاب على النحو التالي: انضوى البحث تحت عنوان: التّوحّد الكوني: في القرن الهجري الأول دراسة في المصطلح والمفهوم والأبعاد ثلاثة أبواب رئيسة، تحدد معالم البحث العامة على الشكل الآتي:

أ – الباب الأول: “التّوحّد” في الشرق وأصول المصطلح: فصله الأول عالج العزلة والتفكير في الخلق، وتعدد القوى والآلهة، قبل التوراة، وبعد الإنجيل، من الجمع إلى الواحد، التوحيد يمهّد للتّوحُّد. والفصل الثاني تلمَّس معنى التّوحُّد لغة واصطلاحاً، في القرن الأول الهجري، وظلاله في القرآن. واستكمل التساؤل: هل الله “متوحّد” وتفكّر الإنسان المتوحّد وتفاعله مع الكون.

ب – الباب الثاني: التَّوحُّد: انزياح في المفهوم. وفيه فصلان، الأول: التوحُّد الجديد، الكائن خليفة المكوّن، شمولية التسخير للأشياء والتخيير (للعقل البشري) الاستجابة الإلهية بدون وساطة. الثاني: الحقل التوحّديّ “الكونيّ”. الرؤية التوحُّدية ومبادئها، نظرية (عربية) جديدة. من الحتمية المعاصرة إلى الاحتمالية المفتوحة. العقل أداة التطوير الأولى والعلم منهج للتغيير.

ج – الباب الثالث: “التوحُّد” وأبعاد النظام الكوني: ويحوي فصلين، الأول: التوحُّد في منظومة الرؤية القرآنية. وأبرز ما عالجته: الإنسان – النبي، والإنسان – المتوحّد. الثاني: الأبعاد المفتوحة لدوائر التوحُّد الكونيّ وتناول الأبعاد الجديدة لبعض مصطلحات التوحُّد مثل: العقل: الحبُّ، السَّبحُ والحركة، الصلاة (الدعاء الصَّاعد)، العمل خلافة الله وصولاً إلى: نتائج البحث.

محمد عقل

كما ويوضح الكاتب، في المدخل العام للكتاب قائلاً: “التوحُّد” مصطلح مُشِعّ وأصيل، يشكّل عنواناً لمنظومة فكرية ونظرة جديدة للعالم، والعرب أحوج ما يكونون إلى ذلك، فهم يعيشون أزمة خطيرة، ولحظات حاسمة، عكستها في السنوات القليلة الماضية آلاف المقالات والأبحاث، محذّرة ومنذرة بما قد يؤول إليه المصير، خشية من ضياع مطلق الأبعاد، يترافق مع تحوّلات تاريخية عميقة في بنية التفكير؛ على المستويات الدينية والاجتماعية والسياسية كافة، وقد ظهرت بوادرها بحركات عنف منغلقة على ماض خُرافي، في ظل كيانات ترزح تحت وطأة القبلية الإثنية والمذهبية، وقد انكفأت عن بناء دول وطنية تراعي حرية الإنسان والمعتقد، في مواكبة للتطوّر والحداثة. والحال هذه كان لا بد من البناء، والتأصيل على مصطلح “التوحُّد” بدلالات الكونية. فكيف الوصول إلى المفهوم الجديد والرؤية الفكرية لهذا المصطلح؟

كما ويشرح “تسويغ العنوان” الأساسي للكتاب، بقوله: ربط العنوان ربطاً محكماً بين الذات الإنسانية والكون. و”الكونيّ” Cosmologique هو المنسوب إلى علم الكون، والكلمة المقابلة للدليل الكوني prevue cosmologique وهو البرهان على وجود الله بالاستناد إلى وجود العالَم؛ لأن العالم بكل ما فيه مُحدث، ولا بد له من محدِث. وهذا الدليل مقابل للدليل الوجودي prevue Ontologique. ويرتكز العنوان إلى منظومة فكرية ورؤية لاهوتية عربية وإسلامية عميقة وبعد حضاري. انطلاقاً من جدلية جديدة لـ”علم الكلام” العربيّ، تتمحور حول مفهوم “التوحّد” كمصطلح أصيل في الثقافة العربية – الإسلامية. وإبراز مفاهيمه على المستويات الفكرية والاجتماعية، كرسالة إنسانية إلى العالم. وكشف البحث عن إمكانات “التوحُّد” الخلاّقة واحتمالاته المفتوحة انطلاقاً من إعادة استقراء النصوص وتأويلها، لإظهاره رؤية فكرية مرتبطة بحركة تغيير إراديّ إنسانيّ، مفتوح مجالها على بنية القرآن ورؤيته الكلية للوجود وما يؤول إليه. وهو مشرع الأبواب لاحتمالات التغيير على امتداد الأزمنة والأمكنة”.

ونُورد فيما يلي، نص تقديم الكتاب: التوحّد الكوني في القرن الهجري، الأول دراسة في المصطلح والمفهوم والأبعاد؛ هذا هو عنوان الكتاب – الأطروحة. لصاحبه المبدع الفذّ المرحوم الدكتور محمد عقل.

لا أبالغ إذا قلت إن ما ورد في هذا البحث، لا يعدو كونه مختصراً مكثّفاً عن الكنوز المعرفية الثرية التي كانت في حوزة الراحل المبدع.

ولا أبالغ إذا قلت إن إشرافي على عمله كان عملاً شاقاً، ألزمني الكثير الكثير من البحث والسعي إلى موارد المعرفة، لكي أكون في تكافؤ مع طالب هو بمنزلة أستاذ.

هذا البحث، من حيث الشكل، يرتبط باختصاص اللغة العربية وآدابها، بيد أنه من حيث العمق، يرتبط بمنظومة معرفية متكاملة العناصر، متجانسة الأبعاد، تشتمل على مكونات تستمد مداها من علوم الأديان، ومن الفلسفة والتصوّف، ومن علمي الكلام والمنطق، فضلاً عن علمي التاريخ والجغرافيا، وعلمي النفس والاجتماعي، وهذه المنظومة برمتها لا يستقيم أمرها، من دون ذائقة فنية، كانت سمة من سمات الإبداع في شخصية الراحل العبقري.

اقرأ أيضاً: «أثر الإحراج السفسطي في فلسفة أفلاطون»… لوداد الحاج حسن

وهذه الذائقة الفنية نفسها، لم تكن انطباعية المزاج، بل كانت تستند إلى ثقافة شاملة، يعزز عمقها معرفة الراحل باللغات القديمة والحديثة على حدّ سواء. وما يميز هذه الدراسة شجاعة صاحبها، في طرح مقولات عصية على الطرح، ووفق منهج تأويليّ مفتوح على فضاء اجتماعي يتسع لجمهرة من الرؤى ووجهات النظر.

وإن متابعة عميقة لسياق البحث، تظهر هذا التماسك النصيّ الأخّاذ في بنيانه، يتجلى ذلك من خلال أبواب ثلاثة متناسقة الوظيفة والدلالة؛ كل باب فيها يشكل مدخلاً إلزامياً للباب الذي يليه.

فالباب الأول: يعنى بأصول مصطلح “التوحّد”، والباب الثاني يعاين سمات الانزياح في مفهوم هذا المصطلح؛ والباب الثالث: يجسّد النتيجة التي سعى إليها البابان السابقان، وهي: إبراز صلة التوحّد بأبعاد النظام الكوني.

وفي المحصّلة، فإن نشر هذا الأثر المعرفيّ إسهام في تعزيز المعرفة الأصيلة والثقافة المسؤولة؛ وهو بمنزلة رسالة عرفانٍ بالجميل لقريحة قلّ مثيلها، ناهيك من كونه إسهاماً في إنعاش الوفاء وذاكرته؛ وأنا أشكر كل من أسهم – في أي صورة من الصور – في هذا النشر لأنه بإسهامه هذا، قد قدم خدمة جلّى للمكتبة العربية التي تحتاج إلى هذا البحث، احتياجاً تكوينياً.

السابق
الجمهورية نقلا عن زوار عون: سائرون إلى المهوار!
التالي
المزارع أحمد الصوص: تحوّلنا الى زراعة الموز بسبب كساد الحمضيات