مدن الأشباح الإسمنتية من بيروت إلى بغداد

أربعة أو خمسة حواجز أمنية. نسيت عددها من شدة التوتر. أنا، الذي مات، منذ أحداث 7 أيار القذرة، شعوري بالأمان في بلدي وفي شارعي وفي بيتي الذي يمكن أن تصله رصاصات عبيد الزعماء، قررت الذهاب إلى العراق.

بين العسكر العراقي، يجول أميركيون بأسلحتهم، يفتشون السيارات وكأنهم مهمومون بأمن الناس. تفضحهم نظراتهم الباردة، البشعة.

لا شيء يوحي بالحياة. طريق كئيبة، مكسورة بالعسكر. لا ابتسامات على وجوه الناس. لا حب حيث يظهر السلاح.

وصلنا الى قواطع إسمنتية ضخمة. منطقة للأشباح. الاحتلال الأميركي جرّد الأحياء من أسمائها، ولقّبها بـ”المنطقة الخضراء”. شوارع سُلبت من أهلها. بيوت سُرقت منها ذكريات أسر عاشت بها، ولم تعد. مسؤولون يعيشون خلف الأسوار. يخفون وجوههم عن البؤس خارجها. لولا جسر جميل يحلق فوق نهر دجلة، لشعرت بسلاسل السجن الكبير على عنقي.

اقرأ أيضاً: لبنان وسط الأنفاق

“هل أراك سالماً مُنعّماً وغانماً مُكرّماً هل أراك فـي عُلاك”… يعصر نشيد “موطني” مع انطلاقة المؤتمر الذي دعيت إليه، قلبي. أمسك دمعتي. أقمع نفسي: “خلصينا عواطف”. تتزاحم وجوه أصدقائي أمامي، وكأنهم يرددون الكلمات بصوتهم. أحب العراق في عيونهم، أحب كيف يلفظون اسم بغداد، “بِغدآد”، يمدون ألفها ويسكّنون الدال فيها بنبرة دلال، ويبتسمون بعدها طرباً بأحرفها. “بِغدآد”.

“بغداد ليست كما يقولون عنها، لا شيء يستدعي الخوف”، يكرر أصدقائي الطيبون هذه الجملة. أثق بما يقولونه.

نصل إلى شارع الكرادة. أضحك من نفسي. أصدقائي يسيرون في شوارعها بفخر وحب، وأنا مذهولة. “هنا حدثت الكبرى” يحاول محمد التسلل إلى عقلي. ينظر إلى عيوني ليعرف إن كنت خائفة بعدما رأيت شوارع تنبض حباً وحياة. لم أخف. أحزن على ما أصاب الناس هنا، على ضحايا انفجار ضخم هز هذا الشارع منذ سنتين. كيف لأحد أن يمتلك قلباً قادر على قتل بشر يحبون الحياة إلى هذه الدرجة؟

الساعة العاشرة ليلاً. نطوف في الشوارع الضيقة. نزور “أبو النواس”. ساحة التحرير. ونجوب كالوطاويط في أزقة ترتفع فيها أصوات الأغاني والفرح…

أصبحنا في منتصف الليل والناس لم يملوا من السهر. مقاه تتدلى من أسقفها الكتب العتيقة. أسواق فيها كل شيء. أثاث، طعام، لوحات، متاجر صغيرة وكبيرة… وصولاً إلى لعبة “بابا نويل” التي انتقلت إليها حيوية الشارع، تراها تلعب الجمباز على الرصيف بحركات مضحكة.

ابتسامات في الشارع تعلو الوجوه السمراء الفاتنة. جمال عربي صاف لم أره في أي بلد آخر. أضواء. زينة الميلاد. امرأة كبيرة في العمر، محجبة، تلعب “الطاولة” في مقهى على الرصيف. يبدو على ملامحها أنها الفائزة على شاب يحاول الربح عبثاً.

ناس يفيضون حباً وكرماً، لكنهم يتقاتلون من أجل زعيم ومذهب ودين، أتذكر بيروت وفساد الزعماء وقذارة انقساماتهم. أتذكر عبارة رددها المتظاهرون في العراق: “باسم الدين باكونا الحرامية”.

تنقطع الكهرباء، أتذكر بيروت وفساد المسؤولين وقذارة صفقاتهم. أرى نفايات في شارع سعدون الواسع، أتذكر بيروت وفساد المسؤولين وقذارة صفقاتهم. أزقة فقيرة بطرقات ضيقة تنهشها الحفر ويلقي الإهمال بثقله على سكانها، أتذكر بيروت وفساد المسؤولين وقذارة صفقاتهم… بيروت حلوة، وبغداد حلوة. مدينتان أسرتا قلبي. مدينتان تحضنان الكثير من الناس الذين أحبهم. المدن هي ناسها.

انتهت جولتنا. تعبنا من المشي، وتعب الأصدقاء من تعريفنا ببغداد ومعالمها الثقافية الكثيرة.

عدنا إلى مدينة الأشباح الإسمنتية، يخمد الحب هنا، تروح الحياة. ممنوع الدخول بعد منتصف الليل. أعود لأتذكر بيروت، حيث يحتل الزعماء شوارع عامة وأحياء كاملة ويزنرون الأزقة وكأنها ملكهم بالوراثة.

كل ما رأيته من بغداد يذكرني ببيروت، حبيبتي الحلوة. ذات يوم، سنعيش. ذات يوم سنكون. ذات يوم سنكنس كل بؤس، وكل خوف، وكل من كان السبب.

السابق
راغب علامة يسامح حكمت ديب ويتلقى اتصالا من ماجدة الرومي
التالي
سميح سلامة: تنظيف الليطاني من دون ردع الجهات الملوِّثة استعراض سياسي!