المؤامرة الأميركية الكبرى!

حسين عبد الحسين

في عقل عامة العرب أن الولايات المتحدة تدير مؤامرة كبرى على العالم، وخصوصا على العرب والمسلمين. لا يصل ديكتاتور إلى السلطة إلا بتآمر أميركي، ولا تجري الإطاحة بديكتاتور إلا بتآمر أميركي. أميركا هي التي عيّنت صدام حسين طاغية للعراق، وهي التي أطاحت به. وأميركا هي التي عينت حسني مبارك حاكما أوحد لمصر، ثم أطاحت به. ثم صادقت أميركا “الإخوان المسلمين” وعينت محمد مرسي رئيسا، ثم أطاحت به، ومنحت الحكم للعسكري عبد الفتاح السيسي. أميركا هي التي تنصّب الحكام، وهي من تطيح بهم عندما “ينتهي دورهم”.

وعند عامة العرب أيضا، أميركا هي التي أسست الحركات الجهادية الإسلامية للقتال في أفغانستان ضد السوفيات، ثم قضت عليها في حربها في أفغانستان. وأميركا هي التي تسلّح وتمول تنظيم “داعش” الإرهابي في العراق وسوريا، وأميركا نفسها تقاتل بجيوشها التنظيم نفسه.

هذا الوهم العربي حول المؤامرة الأميركية الكبرى لا يفسد علاقة العرب بالولايات المتحدة فحسب، بل يعكس سذاجة عربية تقارب الهبل، إذ إن الأحاديث العربية عن هذه المؤامرة تسبغ على أميركا صفة تقارب الألوهية بسبب قدراتها الخارقة على القيام بالأمر ونقيضه في الوقت نفسه. وهو وهم يصوّر العرب وكأنهم يتفرجون على التاريخ، من دون أن يساهموا في التأثير في مجرياته أبدا.

اقرأ أيضاً: النفوذ الإيراني في آخر صوره البائسة

طغاة العالم على أشكالهم، وعلى مر التاريخ، من برلين هتلر إلى موسكو بوتين وطهران خامنئي، أفادوا من الهبل العربي، فبنوا عليه دعايتهم. ويمكن لأي متابع أن يرى كمية التزوير التي يبثها إعلام بوتين وخامنئي بين العرب. مثلا، هناك التصريح المنسوب زورا إلى وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، مفاده أنها قالت إن الولايات المتحدة هي من أسست “داعش”، ودربته، ومولته، وسلّحته.

طبعا التصريح مزيف ولا أساس له. لكن الدعاية الإيرانية تبني عليه. على مواقع التواصل الاجتماعي تنتشر فيديوهات لمقاتلين من “الحشد الشيعي”، المعروف بـ”الشعبي”، أي الميليشيات العراقية الموالية لإيران، يظهرون فيها وهم يشيرون إلى أسلحة وعتاد، صناعة أميركية، غنموها من “داعش”. يدعو المقاتلون المصورين إلى “إظهار حقيقة” أن أميركا هي التي تقف خلف “داعش”.

ومن نافل القول إن مقاتلي “الحشد الشيعي” لا يدعون المصورين إلى إظهار حقيقة أن الغطاء الجوي، الذي منحهم التفوق العسكري لإلحاق الهزيمة بـ”داعش”، تقدمه مقاتلات أميركية، بتكلفة مالية عالية جدا. ومن نافل القول أيضا إن الدعاية الإيرانية تخفي الحقائق، فـ”داعش” اكتسح مدينة الموصل العراقية، واستولى على أسلحة وعتاد الجيش العراقي، وهي أميركية الصنع. كما استولى “داعش” على احتياطي العملات الأجنبية لدى “مصرف الرافدين” المركزي، فرع الموصل.

وهناك الدعاية الزائفة التي تحمل الولايات المتحدة عموما، وقبلها الغرب الأوروبي الذي كان يتزعم العالم، مسؤولية تقسيم العرب والمسلمين والتفرقة بينهم. لا يهم إن الحروب الإسلامية الداخلية لم تهدأ يوما منذ فتح مكة في العام 628 ميلادية، بما في ذلك حروب الردة، وواقعة الجمل بين علي وعائشة، وحرب صفين بين علي ومعاوية، ويوم كربلاء بين يزيد والحسين، ومعركة الزاب بين العباسيين والأمويين، وحرب الأمين والمأمون ولدي الخليفة العباسي الرشيد، وصولا إلى الحروب الأهلية في لبنان والعراق وليبيا واليمن والسودان. حتى الفترة المزعومة ذهبية للدولة الإسلامية، أي دولة الخلفاء الراشدين، شهدت اغتيال ثلاثة من الخلفاء الأربعة.

كل هذا الاقتتال العربي الداخلي، السابق لقيام الولايات المتحدة والامبراطوريات الغربية بألف عام على الأقل، ثم يتنطح السذّج من العرب ليصرّوا أنه لطالما عاش المسلمون في وئام، لولا “مخططات الإمبريالية والصهيونية وقوى التآمر العالمي”.

غالبية عربية لا تعجبها الحقائق، بل تستهويها نظريات المؤامرة، عن حفنة وهمية من “الماسونيين والصهاينة والأميركيين” الناقمين على عظمة المسلمين ودينهم. وهؤلاء العرب المسلمون يعتقدون أنهم ليسوا بغافلين عن الحقيقة، بل هم يعون كل ما يحاك ضدهم من مؤامرات وغيرها من الخزعبلات التي تنتجها أدوات الدعاية لدى الطغاة العرب وغير العرب، ويتم توزيعها على غالبية عربية، تقوم بدورها بتكرار المقولات المزيفة، فتتحول إلى حقائق دامغة تتناقلها الأجيال، ويزداد الجهلة جهلا.

الأميركيون، بدورهم، جرّبوا كل الطرق الممكنة: دعموا ديكتاتوريات عربية، وحاصروا بعضها مثل في العراق وليبيا، وخلعوا بعضها الآخر مثل في العراق، وحاولوا احتلال دول لتأسيس حكومات ديمقراطية فيها مثل في العراق، وحاولوا دعم انتفاضات للديمقراطية في دول أخرى مثل لبنان ومصر، وحاولوا سياسة “الانخراط” مع الرئيس السوري بشار الأسد، ثم حاولوا النأي بنفسهم عن الحرب الأهلية في سوريا، وأشرفوا على تقسيم السودان.

كل التجارب الأميركية في الدول العربية ـ التي تراوحت بين الديبلوماسية والحصار والدعم للديمقراطية والاحتلال المباشر لنشر الديمقراطية والنأي بالنفس ـ كلها لم تنتج إلا عالما عربيا غارقا في الدماء والفساد والفشل، كالذي يعيش فيه العرب اليوم. ثم يحمّل بعض العرب مسؤولية مصائبهم لـ”المؤامرة الأميركية الكبرى”، بدلا من دراسة التجربة الأميركية، وتحديد أسباب نجاحها، ومحاولة صناعة تجربة مشابهة في الحكم، تصنع من العرب مواطنين يملكون أوطانهم وحكوماتهم، وينتخبون حكامهم، بدلا من أن يخال عدد كبير من العرب أنفسهم محللين سياسيين يكشفون خبايا الأمور، فيما هم يتخبطون في معلومات زائفة يزاحمها غياب مقلق في المنطق.

السابق
انخفاض أسعار المحروقات في لبنان
التالي
لقاء سري «إسرائيلي – سوداني» في اسطنبول لبحث سبل تفعيل العلاقات بين البلدين