صحافة أطفئ النور!

محمد علي ابراهيم

تعودت منذ سنوات الصبا على قراءة ثلاث صحف يُحضرها والدى للمنزل يومياً.. عملت بالصحافة شاباً وكهلاً وكانت «عسلة» التى تساعدنا فى المنزل تضعها بجوار فراشى كل صباح.. رويداً ظهرت الصحف المعارضة والمستقلة.. نوعية المطالعة اختلفت، فعندما عملت مترجماً ومحرراً بالقسم الخارجى داومت على مطالعة تحليلات سلامة أحمد سلامة ومحمد العزب موسى ووجدى قنديل ووجيه أبو ذكرى، وظهرت الصحف المعارضة، وهز مصطفى شردى الوسط الصحفى بمقالاته النارية، وعصفورة سعيد عبدالخالق.. ولا أنسى عبدالمنعم الجداوى ومحمود صلاح فى الحوادث، وإبراهيم سعدة فى الموقف السياسى، ومحمود عوض فى الوصف التحليلى النموذجى..

أما القدير موسى صبرى ورشيق العبارة ومايسترو صاحبة الجلالة صلاح حافظ.. فالأنامل تبحث عنهم لتقرأهم.. والعقول تخزن إبداعاتهم.. وتدريجياً بدأت أسحب من «الربطة» اليومية بجوارى صحيفتين أو ثلاثا.. حوالى عشر صحف يومياً أستيقظ عليها ولا أطالع سوى اثنتين، ربما بهوى شخصى أو تمسكا برماد معارضة تذكرنى بحريات صمدت فى وجه ثلاثة أنظمة نعتوها بالديكتاتورية.. اقرأ «المصرى اليوم» و«الوفد».. والأخيرة لموقف رئيس الحزب الراحل فؤاد سراج الدين الذى ذاق الأمرّين فى عهد ناصر وسُجن وصودرت أملاكه، وبلغ به شظف العيش أن يتناول وجبة واحدة يومياً… عمل فى الديكور وتجارة الموبيليا ليقتات، ولم تخرج منه كلمة واحدة ضد من سلبوه سلطانه، رغم أنه انتقد سياستهم.. الآن.. ماذا حدث؟.. اختفت مهنة الحقيقة.. وما يقال عنها البحث عن المتاعب..

تعلمت فى بدايتى أن الصحفى الشاطر يزعج السلطات بمعلومات حقيقية.. لكن الآن السلطة هى التى تزعج الصحفى.. زمان كان الخط الأحمر هو الرئيس، وكلنا تعاملنا مع ذلك حتى الصحف الخاصة – ما عدا الشواذ منها – حافظت على شعرة معاوية.. كل رجال الرئيس وأقاربه وزوجته كانوا تحت المدفعية الثقيلة.. باستثناء مقال أو اثنين..

السادات سجن كثيرين ومثله عبدالناصر.. فى عصر مبارك كان الوزراء يعاقبون الصحف دون تعليمات.. فقد منع أحمد زكى بدر – آخر وزير تعليم لمبارك – طباعة الكتب المدرسية فى صحيفة ومجلة هاجمتاه.. ومثله حسين كامل بهاء الدين.. وتعرضت شخصياً لمضايقات من أحمد المغربى ومحمد منصور وزهير جرانة، لكن أحداً لم يمس شعرة منى.. ذهبت إلى المحكمة أكثر من مرة وتم تغريمى مرة وتبرئتى مرات.. وأشهرها كانت معارك سعد الدين إبراهيم وأيمن نور وجمال زهران وغيرهم..

الآن لا يقرأ أحد الصحف.. فالإعلام أصبح إعتاما.. والصحف تندرج تحت مسمى «أطفئ النور».. الصيحة التى كنا نطلقها ونحن صغار فى الشوارع لإظلام المنازل أثناء غارات إسرائيل فى حرب ٦٧ قبل بناء حائط الصواريخ عندما كانت سماؤنا مباحة لطيران العدو.. أنقذنا إطفاء النور من بعض قنابل الحرب.. لكن إطفاء أنوار الصحافة سيجعلنا نعيش فى ظلام معلوماتى ويتركنا لخفافيش وطيور الظلام التى تنعق فى وجوهنا من قنوات مشبوهة.. إطفاء أنوار الصحافة يحدث على أى نجم يتصور أحد أنه سيلمع.. أو لا يسمع التعليمات أو يحرفها أو يجتهد فى مساحات غير مسموح الاجتهاد فيها.. وقد شاهدت زميلاً يستعدى الدولة على صحيفة خاصة فى برنامج الزميل أحمد موسى، مع أنى وقفت معه ضد أقوى رجل فى نظام مبارك ولم يمسه سوء..

ثم جاءت لجان ولجان.. تفرض عقوبات ولا تقترح حلولا.. تلقيك فى اليم مكتوفاً وتقول «إياك إياك أن تغرق»؛.. وأذكركم بما قاله صلاح جاهين العظيم قبل ٣٥ عاماً «آه يا بلد.. جابت ولد بمصاصة.. ونفس البلد جابت ولد مقتول بقناصة.. وبنت زى الولد.. وبنت رقاصة.. والكلب فيكى يعيش والشهم يموت برصاصة.. وعجبى»..

وتدور الأسئلة بين الصحفيين عن كيفية إنقاذ المهنة فى ظل القيود وإغلاق الإصدارات وتخفيض الميزانيات.. والإجابة بسيطة.. لن تنجح جهودكم لأنكم لا تفكرون فى القارئ.. شاخت عقولكم وضعفت أنظاركم وثقل سمعكم.. فانفصلتم عن الواقع وصرتم سجناء الرأى الواحد والعقل الأوحد.. لماذا لا تفكرون يا جهابذة فى صفحتين يوميتين لكل جريدة بعنوان «العرضحالجى» مثلا، وهى غير رأى الجماهير ومع الناس.. مواطنون يحضرون يومياً للصحف يتم تصويرهم وكتابة شكواهم بأسلوب عبدالوهاب مطاوع.. ١٠٠ مليون مواطن لديهم أنات وأوجاع وأزمات تصلح كجريدة.. فكروا فى صفحة اسمها «خطوط حمراء» للملفات الساخنة ومدعمة بمستندات تقتحم الأسوار دون إثارة أو تحريض.. مرحباً بدم جديد فى الصحافة.. يبتكر ولا ينقل.. لا يكون أسيرا لمكتب الوزير ومستشاره الإعلامى.. المهنة أصبحت «شيش بيش» لا ترى إلا بنظارة صديق أو أصدقاء لم يمارسوها من قبل.. أفتح عيونى صباحاً وأجد اتصالاً من صديق بإنجلترا أو من أمريكا يقول لى: إيه الأخبار؟ وأرد: يابنى أنا على المعاش.. اسألنى عن الشائعات.. يستطرد: ماذا عنها؟.. وأرد: لا أثق فيها لذلك لن أقولها لك.. يقولون إنهم يتابعون الـ«بى. بى. سى» و«فوكس نيوز» و«بلومبرج» والـ«سى إن إن»، ويقرأون الصحف عندهم وهم مشتتون بين ما يقرأون عندنا وعندهم.. يبحثون عن الحقيقة؟ وأرد: ما تسألونى عنه ربما أنتم أعلم به منى..

أفتقد حلاوة قراءة مقال يشبعنى يومياً.. أبحث عن كلمات كفنجان قهوة مضبوط يعيد الاتزان إلى مهنة الكتابة.. أتوق إلى صحافة تفتح طاقات النور أمام الرأى العام دون تجريح أو إسفاف.. نريد أن نعلم ما يدور حولنا لنثق فيما يقال لنا هنا.. طاقات النور هى التى ستطرد طيور الظلام… النوافذ المفتوحة تدخل منها أشعة الشمس والمغلقة تحجب الرؤية وتصيبك بأمراض لين العظام ونقص فيتامينات المناعة.. أوقفوا قبول صحفيين جدد من الأبواب الخلفية.. مازال كثيرون يرتكبون أخطاء فادحة فى الإملاء.. المقالات إما مجاملات أو موضوعات إنشاء.. أحلم بصحافة بها قسم معلومات يدقق ويصحح ليثق القارئ فى صحافة صارت الوحيدة المتاحة لأصحاب الدخل المحدود فى وقت ارتفعت فيه أسعار الكتب إلى ما يقارب ١٠٠ جنيه مصرى.. اللهم لطفك..

السابق
مفتي مصر يصدر بيانا يؤكد فيه ان «للرجل مثل حظ الأنثيين»…
التالي
صنعوا الأزمة… فأفلتت منهم!