فيروز مطربة النكبة الفلسطينية

فيروز
يمكن القول، بجرأة وبلا وجل، إن النكبة الفلسطينية ساهمت الى درجة عميقة في التأثير بولادة فيروز مطربةً لها كل صفات الملاك، كما عرّفته قواميس اللغات ومنعرجات الكتب المقدسة.

في الخمسينيات من القرن الماضي، كانت خيم اللاجئين طازجةً في علاقتها مع الفضاء الأليم، وكان صوت فيروز، بأغانيها الحزينة، يتسلل من خيمة إلى خيمة، يهبط أحياناً، ويعلو أحايين، واللاجئون ملتصقون ببعضهم، على أرضٍ جديدة، يحملون ذكرياتهم عن أرضٍ لا يزال دمها حاراً في أجسادهم، يأخذهم صوت فيروز إلى ما يشبه وجعاً لذيذاً، حين تقفز الأشجار والساحات والخيول والأغنام والدجاجات والسهول التي تُركت في زمن الهزيمة والتشتت.

جاءني صوت فيروز أول مرة في أثناء ولادتي. هكذا قالت جدتي. ربما كانت تهذي في آخر أيامها، وربما كانت واهمةً، فلم يكن هناك من يمتلك راديو في عين الحلوة في السنوات الأولى للجوء.

اقرأ أيضاً: فيروز «لمين» بتغني؟!

أحبَّ العرب جميعاً فيروز، لكن الفلسطينيين أحبوها حباً امتزج فيه الحنين لبلادهم حين كانت ملكاً لهم ولأحلامهم الماضية والآتية. وأحب القرويون الفلسطينيون فيروز، كما لم يحبها أحد، فقد كانت تغني عن الضيعة وساحتها وعرزال الحقول والورد على الأسيجة، وعن المختار والصيادين في العشيات الهادئة. وكانت فيروز ابنة المختار التي يحلم بها كل شباب الضيعة التي امّحت من الوجود والفعل الكائن. ومن أكثر رغبةً من الفلسطينيين المشرّدين في مخيماتهم في استعادة ذلك الوجود والفعل الكائن بعد نكبتهم.

كنا نسمع فيروز في مراحل لاحقة على الخيمة، ونحن قابعون تحت بطانيات وكالة الغوث ترتجف أطرافنا برداً، وضجيج المطر على سقوف الزنك، يصّاعد مع الألحان، ليؤلف معزوفة جديدة تجعل ألم اللجوء خليطاً من البؤس والمتعة التي يستدرجها الصوت الملائكي الرحيم. ولم يكن ممكناً، في تلك السنوات التي كانت أم كلثوم مثلاً معشوقة العرب، أن تجد لها مكانة في قلوب اللاجئين القرويين، فأم كلثوم مطربة أهل المدن المستقرين في حياتهم، في منازلهم العامرة يمضون وقتهم مع أغانيها الطويلة عن الحب ولوعته. ظلت فيروز لنا ملاكاً محبطاً وحزيناً ورقيقاً وشفيف الروح، ابنة مختار الضيعة، ضيعتنا التي ضاعت، والتي حلمنا بها. كانت فيروز بلا جنس، حتى عندما احتار الفقهاء في جنس الملائكة، لم يلتفتوا إلى ذلك الملاك الذي أراد له عاصي الرحباني أن يكون ملاكاً، يترك الحيرة في العقول والأرواح. عندما رحل قدّم لها القدر الذي كان دائماً إلى جانبها زياد الرحباني الذي أنزلها نزولاً مستحباً إلى مكانة الأنثى في داخلها. قام في التجارب الأولى بتكريم عاصي، وكأنه قصد أن يكون ألبوم التكريم تنويعاً موسيقياً يأخذ من الذاكرة ما تختاره الذاكرة، وليس كل شيء في خزائنها. ثم بدأ يشتغل على صوتها، لينزع عنه صفة الملاك بلا جنس، ويدخله إلى عالم الصوت الأنثوي الناضج. أدخلها إلى موسيقى الجاز، إلى عالم النوادي الليلية والدخان والشراب، ولم تعد قادرة على الرجوع مع زياد إلى سطوح القرى وساحاتها، وضوء القمر الوديع مشعاً على الطرقات الترابية والليلك والسرو والزنزلخت والشربين، فالقرى، بعد كل الدماء التي فاضت في لبنان، لم تعد بريئة، ولم تعد مكاناً آمناً يحتضن الملائكة والقرويين البسطاء، وشفافية أرواحهم.

صارت فيروز مع زياد أنثى تغني وتضحك، وتسوق دلالاً يليق بالأنثى التي فيها، وهذا يُحسب لزياد الرحباني، فقد نجح، بحسب التحليل الفرويدي، بقتل الأب، وانتزاع الأم من سلطته الطاغية التي وضعتها في المكان الأثير لديه. ولم يعد اللاجئون الذين أحبوها كلّ هذا الحب، بعد أكثر من ستة عقود من ألم الحنين إلى قراهم، قادرين على البقاء في تلك الزاوية من الحنين الذي فتكت فيها الهزائم والانكسارات.

وعلى الرغم من هذا كله، لم يكن ممكناً لنا أن نتخيل عمرنا الشقي الذي أمضيناه مقتلعين من المكان، بلا فيروز. كأنها خلقت، كما شاء لنا عمرنا.

السابق
جابري انصاري يلتقي عدداً من الشخصيات المعارضة السورية
التالي
جنبلاط: كم كانت بيروت جميلة