لبنان ليس مستقلاً لكني لن أرثي لبنان

استقلال

عشية الذكرى الخامسة والسبعين للاستقلال، أعترف بما يأتي:

لبنان يُحتضَر. كحاله أيّام الجوع. كحاله أيّام انتشار الجراد والأوبئة. كحاله أيّام الذلّ والحرب والتركيع والتهجير والترهيب والتشريد. كحاله أيّام الانتدابات والوصايات والاحتلالات. كحاله أيّام الرزوح تحت الديون التي تهدّ الجبال. كحاله أيّام استشراء الفساد والسرقة والنهب والتزوير والمحاصصة والمصادرة. كحاله أيّام انتهاك الدستور والتطاول على القانون والمطالبة بتمريغ الكيان. كحاله أيّام “الثنائيات”. كحاله أيّام “المثالثة”. كحاله أيّام منع انتخاب رئيس. كحاله أيّام انتخاب رئيس. كحاله أيّام تأليف حكومة. كحاله أيّام منع تأليف حكومة. كحاله أيّام الفلتان. كحاله أيّام سقوط السياسة والسياسيين. كحاله أيّام ملاحقة الأحرار وإسكاتهم. كحاله أيّام موت الصحف. كحاله أيّام سقوط بيروت المكان والمناخ والفضاء والمختبر. وكحاله أيّام سقوط الإنسان.

اقرا ايضا: استقلال المذاهب: الموارنة 43، السنّة 58 والشيعة اليوم

لبنان يُحتضَر. وهذا كلّه يحصل اليوم. معاً وفي آن واحد. بالتزامن والتكافل والتراضي بين جميع مكوّناته ومناطقه، وبين سلطاته ورؤسائه وزعمائه وقادته وطوائفه ومذاهبه وشعبه العظيم.

لبنان يُحتضَر. بل يموت. أهلُهُ لعنتُهُ. حكّامُهُ لعنتُهُ. طوائفُهُ ومذاهبُهُ لعنتُهُ.

إقرأوا “سِفر الرؤيا” بالعين المجرّدة. واقرأوه بالقلب وبالعقل. فالسِّفر هذا، ماثلٌ تحت الحواس اللبنانية كلّها، وفي الخيالات والضمائر. “سِفر الرؤيا” هذا، ليس مجرّد نصٍّ ديني. أو أسطورة أدبيّة خلاّقة. إنه حقيقة واقعية ملموسة، مسرحُها أرض لبنان، وأبطالُها آلهةُ لبنان، وحكّامُ لبنان، وساسةُ لبنان، وطوائفُ لبنان، وشعبُ لبنان.

لبنان ليس مستقلاً. أرضُهُ مستباحة. كيانُهُ مستباح. وجودُهُ مستباح. شعبُهُ مستباح. قانونُهُ مستباح. سيادتُهُ مستباحة. كرامتُهُ مستباحة. سياستُهُ مستباحة. سلطاتُهُ التشريعية والتنفيذية والقضائية مستباحة. توازناتُهُ مستباحة. حياتُهُ مستباحة. دواؤُهُ مستباح. زرعُهُ مستباح. ضرعُهُ مستباح. هواؤه مستباح. ماؤه مستباح. مناخُهُ مستباح. جبلُهُ مستباح. واديه مستباح. سهلُهُ مستباح. بحرُهُ مستباح. ومصيرُهُ مستباح.

لبنان يُحتضَر. ليس فيه مكانٌ لصخرة. ولا لشجرة. ولا لقرميدة. ولا لنبع ماء سلسبيل. ولا لغيمة. ولا لقمر. ولا لشمس. ولا لأغنية. ولا لقصيدة. ولا لضوء أمل.

عشية الذكرى الخامسة والسبعين للاستقلال، أعترف بما يأتي:

لبنان محتلٌّ من أقصاه إلى أقصاه. ومن أدناه إلى أدناه. ومن أعلاه إلى أسفله. ومن جنوبه إلى بقاعه. ومن شماله إلى جبله. ومن شرقه إلى غربه. ومن نهره الكبير إلى رأس ناقورته. ومن كلّ مكان فيه إلى كلّ مكانٍ فيه، وصولاً إلى مقرّ سيادته وسلطاته في عاصمته المهيضة وفي ضواحيه المحتلة. فكيف يكون بلداً مستقلاً؟ وكيف يمكن الاحتفال ببلدٍ محتضر وغير مستقلّ، بل ببلدٍ تحت الاحتلال؟!

روحي مدعوسة. قلبي مفطور. وحياتي أشلاء. لا يسعفني شيء، ولا يلهمني شيء. لا الصدق يسعفني، ولا الكلمات الجوفاء. فكيف أحتفل باستقلال لبنان؟!

لبنان ليس مستقلاً. لكني لن أرثيه. لن أرثي لبنان. لن أرثي لبنان. لن أرثي لبنان.

السابق
جيواستراتيجيا في اسطنبول وطهران وهذيّان وفساد في لبنان
التالي
كارلوس غصن منقذ الشركات المتعثرة..من ينقذه من عثرته؟