كفر المواطنين بالدولة في عجقة الاستقلال

عجقة سير
...لم يكن ينقص اللبناني الأسبوع الماضي سوى احتجازه في "عجقة السير" وسط مجارير تطوف في شوارع عاصمته، حتى "يكفر" بالدولة، ورجالاتها، ومؤسساتها، وهو الذي كفر بكل هذا منذ زمن.

ولعل السبب الذي أعطي لزحمة السير – وهي باتت مألوفة على أية حال – كان أكثر إيلاما من الزحمة نفسها. إذ اكتشف اللبنانيون أن السبب هو أن الجيش يجري تمرينات على العرض العسكري الذي سيقام في الذكرى ال 75 للاستقلال، أي أن لبنان يحتفل هذه الأيام بـ”اليوبيل الماسي” للاستقلال.

نعم … خمسة وسبعون عاما من الإنجازات التي تستحق الإحتفال في ظرف نعجز فيه عن تشكيل حكومة بسبب “الاستقلال” السياسي الذي نتمتع به ، وبوضع اقتصادي كارثي على حافة الإنهيار ما يوجب توفير كل قرش.

اقرأ أيضاً: يوم كرهَ اللبنانيون عيد الاستقلال

خمسة وسبعون عاما مضت ولبنان استقل عن فرنسا “بدعم” بريطاني أوصل الشيخ بشارة الخوري إلى سدة الرئاسة، فجاء الشيخ ومعه السلطان سليم والحاشية التي زينت له السلطة فمشى في التمديد حتى كانت “ثورة سياسية” حين قال كمال جنبلاط أتى به الأجنبي فليذهب به الشعب، وهكذا كان ليحل محله فتى العروبة الأغر كميل شمعون وأيضا بدعم الأسد البريطاني العجوز وقد تزامن ذلك مع وصول الضباط الأحرار للسلطة في مصر وما ترتب عليه من تأميم لقناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر الذي تسبب بإنحسار الدور البريطاني مفسحا المجال أمام الدور الأميركي ومخططاته في إقامة حلف بغداد الذي عارضته مصر وكان شمعون من الداعمين له.

الحقيقة تقال أن شمعون نجح على الرغم من الأنواء والعواصف في المنطقة ببناء دولة وسلطة أنتجت عمرانا وتنمية حتى قامت ” ثورة ” العراق عام 58 التي أيدتها القاهرة، وأدت إلى خروج العراق من المحور الغربي الذي كان شمعون بطريقة أو بأخرى أحد أطرافه، ومع إزدياد النفوذ الناصري في لبنان والمنطقة وقع المحظور بين اللبنانيين، وكانت هذه المرة ” ثورة مسلحة ” لم تنته إلا باتفاق أميركي – مصري على الإتيان بقائد الجيش يومها فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية وهكذا كان.

كانت فترة هدوء إقليمي سمحت في ظل وجود شخصية نبيلة الهدف ونظيفة الكف كالجنرال شهاب باستكمال بناء الدولة، وإنشاء بعض المؤسسات كالضمان الإجتماعي وغيره من مؤسسات الرقابة الإدارية.

ترافق كل هذا مع تفعيل عمل المكتب الثاني، الامر الذي لم يرق للطبقة السياسية التي أسماها الرئيس شهاب أكلة الجبنة، وبالتالي كان نقطة الضعف التي تسلل منها المعارضون لما سمي بالنهج الشهابي في الحكم، وكان أن رفض الرئيس شهاب التمديد أو تجديد الولاية، فكان أن تسلم شارل حلو الذي لم يكن له شخصية وكاريزما وقوة فؤاد شهاب فبدا حكمه نسخة مشوهة عن الشهابية، وفي منتصف ولايته قامت حرب 67 وما نتج عنها من هزيمة لمصر وعبد الناصر الأمر الذي وجدت فيه المارونية السياسية فرصتها للتحكم بالسلطة خصوصاً وأن العامل الفلسطيني كان قد بدأ يشكل عامل قلق لها.
اكتسح الحلف الثلاثي إنتخابات 68 ما مكن هذه الجهة من إيصال مرشحها القوي ” سليمان فرنجية” إلى سدة الرئاسة عام 70 في إنتخابات وصفت أنها الوحيدة التي كانت بـ”قرار لبناني”، سبقها للأسف توقيع إتفاقية القاهرة بين لبنان ومنظمة التحرير التي كانت شرارة اندلاع المصادمات بين الطرفين، فكان أن انتهت ولاية سليمان فرنجية والبلاد غارقة في حرب أهلية دامية، اختلط فيها الداخلي بالخارجي وأفضت إلى تدخل عسكري سوري مباشر على وقع محاولات تسويات سياسية في المنطقة بعد حرب تشرين 73 .

هكذا دخل لبنان عصر إتفاق مورفي – الأسد وكان ما كان من تحولات واجتياحات إسرائيلية وصدامات سورية – فلسطينية وعربية – عربية وتصفية حسابات خاصة بعد زيارة السادات للقدس، إلى أن كان إتفاق الطائف الذي أدخل السعودية في معادلة الحل اللبناني منتجاً ما اتفق على تسميته بتسوية السين سين والتي إنتهت مفاعيلها بإغتيال الرئيس الحريري ولم تنفع محاولات إعادة إحيائها في عام 2009، لأن العامل الإيراني كان قد دخل وبقوة في المعادلة اللبنانية بعد اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، ولا يزال حتى اليوم متحكماً بالساحة اللبنانية شئنا أم أبينا.

وهكذا وبسبب كل هذا الواقع وتقلباته على مدى 75 عاما من الإستقلال، وبسبب أننا لم نحسن إدارة بلادنا إلا في حالات نادرة، وبسبب أننا تربة خصبة للنزاعات المحلية والأقليمية والدولية بفضل نظامنا الطائفي الذي يسهل الولوج منه للعب بالغرائز وإنتاج المشكلات.

بسبب هذا كله وصلنا إلى يوم لا نحسن فيه تنظيم السير بسبب تمرينات عسكرية، ولا نحسن فيه منع الطوفان بسبب شخص “مستثمر” أغلق مجرورا وسط غياب الرقابة والمساءلة كي لا نقول بوجود تواطؤ وفساد، فكيف نحسن الحفاظ على الاستقلال ،ومن يغلق مجارير الهدر والفساد واللامبالاة حتى نستطيع أن نبني بلدا لا نريده أحسن من غيره من البلدان، بل بتنا نتمنى أن نكون بلدا عاديا طبيعيا له مؤسسات تعمل دون تعطيل، واقتصاد ينمو دون محاصصة وهدر وفساد ومؤسسات عسكرية وأمنية واحدة لا شريك لها فهل هذا كثير؟ وهل سيأتي اليوم الذي نحس فيه فعلا بفرحة الاستقلال و”عجقته”؟ …

السابق
نواب بيروت يتحرّكون… وبري لن نوقّع الاّ!
التالي
بلغاريان ولبناني شكلوا عصابة لسرقة اموال من حسابات المودعين في البنوك..