لبنان: الفاسدون والدولة المفسودة

الفساد

متى تفسد الدولة ؟
تفسد الدولة حين يتحكم بها الفاسدون.
الدولة مؤسسة عامة تصلح بصلاح القائمين عليها وتفسد بفساد من يديرها .
لاتفسد الدولة ذاتيا فهي ليست جسما قائما بذاته ولا كائنا له قوام أوعقل أو جسم أو أطراف .
الدولة مؤسسة اعتبارية تصبح مؤسسة إجرائية حين يحرك أفعالها البشر ويشغلها البنو آدميون .
مقر الحكومة هو مكان، مثل الوزارة ، مثل أي مؤسسة عامة أخرى ، هومكان لا قيمة له إلا بكونه اعتباريا ورمزيا ومجردا .
لا يتحمل المكان مسؤولية الفساد ، فالمكان يفسده أهل المكان ، والمكان يمكن أن يتحول إلى مكان للصلاة أو إلى ماخور .
قديما سُئل المصلح الإغريقي ، سولون ( توفي 550 قبل الميلاد)، أي دستور أفضل وأي دولة أفضل ؟، فأجاب بسؤال :” لأي شعب ؟ “.
إذا … الإنسان مسؤول عن ذلك .
هذا منطق الطبيعة
وهذا منطق الخلق الإلهي
فالله لا يحاسب المكان لأن لا فعل للمكان
والله يحاسب الإنسان على أفعاله

أول الفساد هو في العقل
وأول الصلاح هو في العقل ايضا
أي كيف تفكر وكيف يفكر وكيف نفكر .
وهذا ما قال به الفلاسفة من أرسطو حتى الفارابي ، حيث أجمعوا على أن الفطنة العقلية تكمن في القدرة على التمييز بين الخير والشر، ولا حاجة لإطالة وإسهاب في القول بأن الفساد شر، أو شر الشرور.
وبما أن الدولة لا تفكر بل من يتولى الدولة هو الذي يفكر ويدير الدولة كيفما يشاء ويرغب ، بخير أو بشر ، بإستحسان او بإستبشاع ، فهذا يعني ان الدولة لا تكون فاسدة بل مفسود بها ، لأن فعل الفساد يقع على الدولة ولا يكون من إنتاجها .
لذلك ينبغي الحديث عن الفاسدين والمفسدين في الدولة ، وليس عن الدولة الفاسدة ، والفاسدون يأتون إلى الدولة من خارج الدولة ، يأتون فاسدون بالأصل ولا يفسدون في الدولة فحسب ، بل يفسدون في داخل الدولة وفي خارجها .
لنأخذ عل سبيل المثال الذين يلوثون نهر الليطاني .
لا يستطيع هؤلاء تلويث النهر الأكبر في لبنان من دون أن يكون لهم مخالب فاسدة في الدولة .
فهناك من وفر لهم غطاء البداية ودرع الإستمرار .
هذا ينطبق على معضلة النفايات ، فحين اختلف من يديرون الدولة على إدارة شركات إزالة النفايات ، جلبوا إلى لبنان الهواء المسرطن .
ما ذنب الدولة هنا ؟
لا ذنب للدولة بل ذنب المتحكمين بالدولة .
من يحميهم؟
لا تحميهم الدولة إنما يحميهم الفاسدون في الدولة المفسود بها .
وعلى ذلك يمكن القياس وضرب الأمثلة واستحضار المتشابهات وقصص الفساد بأقصرها و أطولها وأضيقها وأعرضها .
لكن فساد الفاسدين في الدولة ليس كل الفساد .
هذا حق يقال
ولا بد أن يقال
فهناك الفساد العام الذي يمارسه الناس على الناس .
فالغذاء الفاسد الذي يباع في الحوانيت والدكاكين والمطاعم الكبرى والصغرى ، ذاك فساد يمارسه الأفراد على الأفراد .
ومن يبيع المياه الملوثة يمارس فساد الفرد على الأفراد .
ومن يخرق قوانين السير يمارس فساد الفرد على الأفراد .
من يقيم ” جمهورية مستقلة ” أو “حكما ذاتيا ” فينصب العواميد و ” الخوازيق ” أمام محله التجاري أو مطعمه أو فرنه أو “محل عصيره “، إنما يمارس الفساد بعينه وذاته.
هذا واقع يجب الإعتراف به
وهذه خطورة يجب الإقرار بها
رب قائل هنا : لو حضرت الدولة لغاب ” الفتوات ” وأمراء “الحكم الذاتي “.
هذا قول صحيح جزئيا .
ولكن الصحيح أيضا : ما العمل في ظل الدولة المفسود بها ؟
يبدأ التصويب بالإيمان المطلق بوجوب وضرورة وجود الدولة
ويبدأ التصحيح بعدم اليأس من انعدام الدولة أو غيابها أو قصورها أو عدم وجودها
وهذا يشبه الإيمان المطلق بالصدق ، فإنتشار الزيف والتزوير والدجل لا يقتضي اليأس من غياب الصدق والمصادقة على نقائضه وأضداده .
فالدولة هي القيمة العليا للإنتظام البشري
وهي المصلحة العليا للإجتماع البشري
فلا انتظام ولا اجتماع ولا وئام ولا سلام ولا آمان للبشر المقيمين على أرض واحدة بدون وجود الدولة .
وقديما كتب الفارابي عن ” الدولة الفاضلة ” واعتبر أن الدولة هي الفضيلة العليا .
و من أراد ان يكون فاضلا عليه الإيمان بالدولة بل واختراع الدولة .
وكل فعل فضيل يحيد عن جادة الدولة يبقى خارج الفضيلة الكبرى أو الفضيلة العليا .
وأما لماذا الدولة هي الفضيلة العليا ؟
فلأنها تُعنى بشؤون البشر
ولأنها ترعى مصالح الناس
ولأنها فوق نزاعات المصالح
ولأنها فوق خصومات السياسة
ولأنها فوق الأحزاب وفوق الجماعات.
ومبتدأ طريق الفضيلة نحو الفضيلة العليا، أي الدولة ، يكمن في صوغ المسافة بين الفعل السياسي ، وهو فعل ” تحتي” وبين الدولة ، وهي مؤسسة ” فوقية “.
وهذا يفترض إبعاد الدولة عن تهلكة العصبيات
والعصبيات غالبا ما تكون لجماعة أو طائفة أو حزب
وإذا كان المنطق يقر بأن الأحزاب لا تبقى ولا تستمر بدون عصبيات ، إلا أن المنطق يجب ألا يقر العصبيات الحزبية أو الطائفية التي تعلو على الدولة ، فالعصبيات في هذه الحالة تغدو ذرائع ومبررات لأحوال “الفلتان” والفوضى .
مرة ثانية : من أين يبدأ إصلاح الدولة ؟
من عدم التعايش مع الفوضى كأنها قدر محتوم
من عدم تبرير السرقة والنهب بذريعة العوز والحاجة
من عدم تبرير خرق القانون بحجة غياب الدولة والقانون
من عدم تبربر الفساد لأن الآخرين فاسدون
من الإعتقاد بأن السياسة فعل إنساني وليست لعبة شياطين
وبأن السياسة هي تعبير حضاري ـ اجتماعي ناجم عن خروج الإنسان من الغابة وأهوالها إلى المدينة واستقرارها .
وبهذا المعنى تكون الدولة منتوجا لهذا الطور الحضاري فهي :
ـ المؤسسة العامة ـ المصلحة العامة ـ الإجتماع العام ـ العقل العام ، وأي أذية تلحق بهذه المؤسسة أوهذه المصلحة ، هي أذية تلحق بالجميع ، أفرادا وجماعات ، وحين يبرر الفرد فعلا فاسدا لزعيم أو مسؤول ، فإنما يلحق الأذية بنفسه ويكون عدوا لنفسه ، فالفساد مترابط وليس له حدود ولا مساحة ولا مسافة .
في اللغة العربية ، الفساد يقابله الإصلاح ، أي ضده ، وسبق القول إن الإصلاح أو الفساد ، هما ثمرة العقل ، إيجابا أو سلبا ، بمعنى كيف نفكر ، وقيل إن العقل قادر على تحديد الخير من الشر ، ولذلك يقال لأصحاب الأفكار المستقيمة بأنهم ” أصحاب عقول”، إلا أن هناك من يضع الضمير فوق العقل ، خصوصا أن العقول قد تختلف ولكن الضمائر دائما تأتلف ، ولهذا قيل :
إن الدولة هي الفضيلة العليا
هي الأخلاق العليا
هي الضمير الجماعي الأعلى
هل أعدنا القراءة ؟:
الدولة هي ضمير الجماعة والضمير الأعلى للجماعة
يا أصحاب الضمير …

السابق
دفعة جديدة من النازحين السوريين تعود عبر المصنع
التالي
لبنان: القوة الماكرة والدولة المغدورة