أصاب جبران باسيل..

رفع أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله سقف خطابه إلى حدود هدفها إبعاد أي احتمال لاستجابة رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري لمطلب تمثيل سنة 8 آذار داخل الحكومة الجديدة. أراد نصرالله قطع الطريق على أي إمكانية لولادة حكومة في بيروت في توقيت لا يتناسب مع الساعة السياسية في طهران. الخطاب، في شكله الغاضب ومضمونه المهدِّد، لا يندرج ضمن السجال السياسي التقليدي في البلد للوصول إلى المخارج المناسبة، بل يرمي إلى تفخيخ أي حلول، ووضع لبنان في حالة جمود حكومي، بانتظار مزاج آخر، يصدر في خطاب آخر، ووفق حسابات أخرى.

اقرأ أيضاً: هدفان لإطلالة نصرالله

يمارس نصرالله علناً ما بات معروفاً من هيمنة كاملة يمتلكها حزب الله على الحياة السياسية في البلد. قطع بين عامي 2014 و2016 طريق الرئاسة على كل الطامحين إلى أن بات حليفه ميشال عون مرشحاً وحيداً لا ثاني له. وقطع قبل ذلك طريق البرلمان وحاصر السراي، مقر رئاسة الحكومة، حين كان فؤاد السنيورة في هذا المنصب، وانقلب على حكومة الحريري عام 2011 بعد مروره في 7 أيار وفرضه بدعة اتفاق الدوحة عام 2008… إلخ. وما يفصح عنه نصرالله هذه الأيام متّسق مع سياق لم تتغير شروطه ولا تشوّهت مّسلماته.

أعاد نصرالله الصراع السياسي في البلد إلى خنادقه الحقيقية. لا تكمن مشكلة البلد بتناحر مسيحي-مسيحي أو درزي-درزي، ولا بتنافر في شخصيات ميشال عون وسمير جعجع ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية… إلخ. اعتبرت بعض الأوساط أن وزير الخارجية جبران باسيل ارتكب زّلة لسان أزعجت حزب الله حين تحدث عن عقدة سنية شيعية. بيد أن الرجل لم يرتجل تغريداته، بل كتبها بناء على معطيات دقيقة، تجعل من الأزمة الحالية عودة إلى الأصل، إلى ذلك الخصام السياسي السني الشيعي، لاسيما بين حزب الله وتيار المستقبل.

يبدو الصراع في بُعده الأكبر عودة إلى تظهير واجهاته الإقليمية بين إيران والسعودية. يوجه نصرالله كلامه بصرامة متحديا سعد الحريري وما يمثله من وجه للسياسة السعودية في لبنان. وكما انقلب حزب الله وحلفاؤه على حكومة الحريري عام 2011 وأعلنوا ذلك في مؤتمر صحفي حين كان الحريري مجتمعا بالرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في البيت الأبيض، يعلن أمين عام الحزب موقفه المطيح بأية إمكانية لتشكيل حكومة جديدة، عشية لقاء الحريري بقادة العالم في باريس على هامش احتفالات مرور مئة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى.

يتصرف حزب الله في لبنان بصفته كائناً فضائياً غير معني باستقرار البلد ومستقبله وازدهاره. لا يهم الحزب أن تتشكل حكومة في لبنان، فذلك ليس من وظائفه التي خُلق من أجلها. يهتم وليد جنبلاط بالمخاوف من تراجع الاقتصاد، يهتم سعد الحريري بتوفير شروط يستفيد فيها لبنان من مقررات مؤتمر سيدر، يهتم سمير جعجع بما يمكن أن تشكّله ولادة الحكومة من تداعيات إيجابية على ملفات عالقة تخلّص البلد من انسداد آفاقه وتأزم مسالكه…إلخ. ويهتم طبعا ميشال عون في أن تتم ولادة الحكومة، ويعتبرها الأولى في عهده. يود الرجل أن تطلق الحكومة العتيدة محركات البلد والعهد، لعلها تفي وعوداً وتنفذ تعهدات ما برح يطلقها منذ أن دخل قصر بعبدا. غير أن حزب الله غير معني بكل بذلك، وسيمنع ولادة الحكومة “وفاء” لحلفائه “سنة 8 آذار”.

يجول النواب السنّة المعنيون، كما طلب منهم في هذا التوقيت بالذات، يحملون مظلوميتهم إلى منابر البلد. يمتلك حزب الله ما يعتقد أنه قوة خارقة تبيح له فرض شروطه كاملة على البلد، شعبا وحكومة وبرلمانا ومؤسسات أمنية وعسكرية ورجال الدين. وراء الحزب سجل لمن يهمه الأمر. مجموعة من عناصره يحاكمون في لاهاي أمام محكمة دولية بتهمة اغتيال رفيق الحريري وصحبه. غزوته في 7 أيار ذكرى ماثلة لسابقة تضمرها كلمات السيّد التي لا تقال. وحملته في سوريا الكبيرة المجاورة ترهب كواليس السياسة في لبنان البلد الصغير. يكرر نصرالله امتلاك حزبه ترسانة من 150 ألف صاروخ لـ “حرق إسرائيل”، ومن يمتلك قوة تقلق الولايات المتحدة وخزانتها ووزارة العدل لديها، فإن له الحق أن يهدد من هم تفاصيل داخل حساباته وغباراً على هامش متونه.

لا تؤثر العقوبات الأميركية المتصاعدة على رشاقة حزب الله ودينامياته. والظاهر أن انشغال وزارات واشنطن المختصة بملاحقة حسابات الحزب المصرفية ومراقبة شبكاته المالية وإطلاق التصريحات تلو التصريحات في هذا الشان، طمأن نصرالله إلى تواضع الخطط الأميركية وغياب مفاعيل عسكرية أو أمنية لها على نحو لا يشكل تهديدا حقيقيا وجوديا للحزب ونفوذه، لاسيما في لبنان وداخل حكومته. وإذا ما كانت طهران تقيس ردود أفعالها وتحسب حركتها في مقاربة عقوبات دونالد ترامب الأخيرة، فإن على واجهة إيران في لبنان أن تقدم رداً رادعاً يعوضها تقهقر واجهتها في اليمن وعجزها عن توفير ذلك.

وفق المشهد الإقليمي الدولي الكبير يعود حزب الله مفصليا داخل خرائط النفوذ الإيراني في المنطقة. وفق ذلك يصبح تشكيل حكومة في لبنان تفصيلاً لا يهم إيران، وبالتالي لا يهم حزب الله. تتأمل طهران بقلق العواصف الخبيثة التي ستصدّع خرائطها. تراقب بقدرية موجعة تقهقر الحوثيين في اليمن وتأجيل المجتمع الدولي أي حديث عن تسوية سياسية يرعاها المبعوث الأممي إلى اليمن. لم تستوعب طهران مفاعيل القمة التركية الروسية الفرنسية الألمانية التركية حول سوريا في اسطنبول، ولا يريحها هذا الحشد الخبيث لزعماء العالم في باريس الذين يتقاطعون في إنتاج مشهد دولي تغيب إيران داخله. والظاهر أن دولة الولي الفقيه تعيش لحظات نادرة في تاريخها منذ قيام الجمهورية الاسلامية، بحيث لا تحسّن الامساك بالمفاصل وإدراك التحولات. وعليه لن تمنح طهران حكومة في بيروت مجاناً، وسيكون على نصرالله إطلاق مواقف تجبر الحريري على عدم الخضوع وبالتالي عدم تشكيل أي حكومة.

لا يشعر حزب الله بأي خطر حقيقي يدفعه للتظلل بأي حكومة حتى لو لم يكن فيها فيصل كرامي وزيراً. ومع ذلك لا يمكن إلا ملاحظة أن موقف نصرالله المستند على قوة الواثق يعكس ارباكاً يفسر اللغة المستخدمة ولهجاتها المعنِّفة. كانت الوصاية السورية تحكم لبنان بالهمس داخل الغرف الخلفية، لكنها حين أدركت خطراً محدقاً استدعت رفيق الحريري إلى دمشق فتناوب رئيسها وضباطه على نهر الرجل وزجره. كان ذلك قبل أشهر من اغتياله ومن انسحاب القوات السورية من لبنان. وقد لا يعيد التاريخ نفسه ولا أحد يتمنى ذلك، إلا أن من يفقد هدوءه يخفي خللا بنيوياً في مواجهة استحقاقات تتجاوز مسألة الوفاء لسنة 8 آذار ومواهبهم.

غضب ساسة البلد من خطبة نصرالله، لكنهم يعرفون أنه لا يكلمهم وربما لا يراهم ولا يلتفت لجلبتهم وما تقرقعه أرقام الاقتصاد بين أيديهم. فإذا ما أراد الرجل أن لا تكون لهم حكومة فلن تكون.

السابق
نصرالله يهدد الجميع ويعلن: سأساند نواب 8 آذار حتى يوم القيامة!
التالي
الشمولية الإيرانية كمُركّب إسلاموي قومي