عودة تمثال الأسد وتعذيب الزمن السوري

شادي علاء الدين

عندما ثار السوريون في وجه المنظومة الأسدية كانوا يحاولون انتزاع زمنهم الخاص من براثن الأبد الاسدي، سعيا إلى امتلاك الحق في تحديد معالمه ورسم ملامحه وبناء معانيه.

الزمن الأسدي كان زمن تعذيب مفتوح ودائم ومتصل ولا يمكن معه إلا أن يكون الناس أسرى احتضار لا ينجز، يصبح معه الموت أملا لا يدرك.

تماثيل الأسد كانت أنصاب ذلك الزمن وعلامته، ولعل انتشارها الكثيف في كل مكان كان يهدف إلى تحويل كل المكان السوري إلى مجرد صدى لكلام التماثيل، الذي يعكس في كل لحظة مدى صلابة خطاب التعذيب وشدته واتصاله.

يعود تمثال حافظ الأسد إلى دير الزور بعد سبع سنوات على إسقاطه محاولا أن يعيد تركيب زمن التعذيب،بعد أن أحس السوريون أنه من الممكن الخروج منه. تصوّر هذه العودة على أنها فاتحة إعادة الإعمار، إذ يقوم التمثال وسط مساحة من الخراب والركام والأبنية المتداعية المنخورة بالرصاص والقذائف.

اقرأ أيضاً: جمال خاشقجي يصف مَقاتل لبنان التي رسمتها نهاية صحافته

يبدو التمثال حيا في مكان ميت، ويراد له أن يبث شكل حياته ومعناها في موت المكان ليحوله إلى ظل له، وكي لا يعود ممكنا له أن يركّب أي معنى خارج سطوة فكرته وخطابه.

هذا ما يحاول الأسد الوريث أن يبثه من خلال سعيه المحموم لرسم ملامح انتصار نهائي على السوريين، وتثبيت عناوين هذا الانتصار بكل عدته الميدانية والرمزية، ولكن الأمر المهم الذي فاته يرتبط بما يقوله المكان نفسه، و بخطابه الذي لم يعد من الممكن دفنه وطيه.

الخراب الذي يحيط بالتمثال انتزع مع تراكم تفاعلات الحدث السوري القدرة على أن يكون شاهدا على حاله، بمعنى أنه لم يعد مؤمنا إلا أن ينسب الدمار والقتل الذي حل فيه إلا إلى الأسد ومن معه، وذلك بشكل منفصل عن المواقف المؤيدة أو المعارضة، والدفع في اتجاه التدخل لوقف المجزرة أو تجاهلها.

من هنا تحولت كل حصيلة الخراب الهائلة التي أصابت المكان السوري إلى تماثيل مضادة لتماثيل الأسد، وتقدم نفسها على أنها أنصاب الأسد الفعلية وتماثيله التي لا يرقى الشك في أنها تخبر عن زمنه.

هكذا يتحول تمثال الأسد الأب إلى متهم يجلس وسط مجموعة كبيرة من الشهود، وتتحول الأرض التي تحمل هؤلاء الشهود إلى محكمة ميدانية.

لم ينتبه الأسد الوريث في سعيه المحموم لتركيب معالم زمنه إلى مخاطر إعادة تماثيل حافظ الأسد إلى أمكنة كان أهلها قد أسقطوها فيها، وتاليا فإن ذاكرة تدمير التماثيل وتفكيك معناها ما تزال حية في نفوس من فعلوا ذلك، أو أنها تحولت إلى قصة وإلى سيرة لا يمكن محوها، بعد أن كان هناك قصة وحيدة هي قصة الأسد عن سوريا.

لعل ما لا يمكن إنكاره بعيدا عن كل التطورات السياسية والميدانية التي جرت طوال سبع سنوات وما زالت جارية، هو أن هناك قصة مختلفة كتبها السوريون عن سوريا وأن معالم متانتها قائمة بمجرد ظهورها إلى النور.

لعل الديكتاتوريات على الرغم من شدة سطوتها وقدرتها على سحق الوعي العام للناس تنطوي على نقاط ضعف خطيرة، وتكشف عن هشاشة قاتلة تكمن في أنه يكفي أن تخترق قصتها بشكل علني، حتى تبدأ معالم انهيارها.

تدوم الديكتاتوريات عبر شدة إحكام سيطرتها على القصة التي تعممها عن البلاد، والتي تحرسها بالدم والتعذيب، وتديم سطوتها الرمزية بالتماثيل، من هنا فإن التماثيل حين تسقط لا يمكن أن تبعث من جديد، ولا أن تبعث معها القصة التي تعممها وتنشرها.

سقوط التمثال حدث يجري مرة واحدة وعملية إعادته لا تستطيع أن تخفي معالم السقوط ولا أن تمحوها، بل سيبدو التمثال الجديد على الدوام بوصفه ابنا للتمثال الساقط ،وحاملا لمعنى السقوط ومنتجا له، ولا يمكن للأسد الوريث أن يركب معنى مغايرا لهذا المعنى.

يستطيع أن يعيد التمثال إلى مكان سبق له أن أسقط فيه، ولكنه لا يستطيع محو ذاكرة الإسقاط، ولا أن يجعل التمثال الجديد إعلان خاتمة جنائزية لها، بل ربما لم يعلم أن هذه العودة إنما تتيح المجال لمنظومة رمزية مغايرة لمقاصده، يتحول فيها التمثال الجديد شاء أو أبى إلى التمثال القديم الذي يسقط باستمرار، والذي لا يشكل انتصابه سوى لحظة عابرة في انتظار السقوط التالي.

السابق
«النموذج» الإيراني المعادي للغرب للسنوات الخمسين المقبلة
التالي
معنى زيارة نتنياهو إلى سلطنة عمان