أنسي.. أنيس أرواحنا..

كنا.. نحن طلبة العلوم الدينية في حوزة النجف الأشرف، قد تعلمنا الدرس من تاريخ النجف الأدبي، وانفتحنا على كل من يكتب وما يكتب، ونقرأ اسم الكاتب في آخر القصيدة أو المقالة، ولا نسأل عن دينه أو مذهبه أو قوميته أو جنسيته إلا بقدر ما يكون ذلك ضرورياً لفهم ما قرأناه في ظروفه.. ولكننا عانينا تناقضاً في علاقتنا مع بعض الأسماء اللامعة ومنها اسم أنسي الحاج، فكنا عصبة تحب كل ما يكتبه حتى لو لم تكن الحوزة تستسيغه، وهي قلما كانت تمانع في استساغة النصوص الإبداعية حتى لو اعترضت عليها، أو ردت على القصيدة بقصائد، أي المعارضة بالمعنى الشعري، كما جرى مع قصيدة إيليا أبي ماضي المشهورة (لست أدري)..
كنا نحب الأنسيات ولا نحب أنسي، أو لا نعبر عن حبه، أو نكرهه ولا نعبر عن الكره..وأعترف أن السبب في هذاالتناقض، هو أننا كنا متورطين بشيء من التزمت الديني، لا بمقتضى الدين، بل بمقتضى بعض عادات بعض المتدينين ومنهم بعض زملائنا وأساتذتنا.. وأنسي مسيحي يميني يكتب في “النهار”، كأننا كنا نميل إلى الظلام، وأنسي يسهر الليل والنهار في “النهار”، فلا تعرف معه أو مع جبران الأول وغسان وجبران الثاني، الفرق الجوهري بين الليل والنهار، أو بين الشعر والنثر والحياة.. إلى ذلك فهو من مجلة شعر.. ولا أدري، ومن دون مجلة شعر وورشتها، كم كان ليكون مقدار ونوع المعاصرة في الأدب اللبناني أو العربي الحديث؟

اقرأ أيضاً: اللهم عفوك يا كريم.. علي عفانة وآذار المقصوف

بعد نكسة عام 1967 –المفصل- وبدء المقاومة، صعقنا أنسي الحاج بفلسطينيته، وذكرنا بمطران القدس والعرب، غريغوريوس حجار، الجزيني من قرية أنسي (قيتولي) إياها.. كانت فلسطينيته متقدمة علينا ونحن متقدمون على غيرنا فيها، عمقاً وصدقاً واندفاعاً وحباً وغضباً وتعبيراً، وكنا قد شرعنا في الانتقال من التزمت على حساب الدين والديان والإنسان، إلى التدين على أساس الإيمان لحساب الإنسان، وصار أنسي الشخص يزاحم أنسي النص في عقولنا وقلوبنا وأحاديث سمرنا وجلسات سحورنا في شهر رمضان ونزهاتنا المتواضعة على شط الفرات في الكوفة، على مقربة من حي كندة، حيث ولد وعاش المتنبي ولعب بالتراب والشعر، وعلى مقربة من مدرسة الإمام الصادق وتلميذه أبي حنيفة، وزواره المحبين من زنادقة عصره وملحديه، عبد الكريم بن أبي العوجاء وحمّاد عجرد، وأبو عبد الله المصري وأبو شاكر الديصاني.. مع إطلالات لابن المقفع.. وحوارات جميلة يشارك فيها تلاميذ الصادق، هشام بن الحكم وجابر بن حيّان، ومؤمن الطاق، وهشام الأحول وغيرهم.
كنا ثلة أو شلة متهمة بالحداثة، التي كنا نتنصل منها بطريقة تؤدي إلى توكيدها وتبرير رغبات بعض معايشينا بتكفيرنا من دون فتوى بقتلنا، لأن هذا النوع من الفتاوى لم يكن (دارجاً) لأن من يعارضوننا في منازعنا وأسئلتنا كانوا متدينين ولا يملكون سلاحاً لأن سلاحهم دين وذخيرتهم معرفة.. وفي حين انقلب بعض منا بإملاء من الموروث العائلي إلى فقه الحيض والنفاس ومفسدات الوضوء، بعدما أوغل في أشكال الحداثة حتى إشكالاتها واقتراف الخطيئة.. وبقينا مع قلق كنا نراه ضرورياً، لأننا وسطيون ونسبيون، والتزامنا الديني متوازن مسلكياً وإن بقي مقدار من التزمت في قناعاتنا العقدية وقتها.
وقرأنا (لن) أنسي.. واستغرقنا فيها، حتى بدا لنا كأننا اكتفينا بها، ولم نعد بحاجة إلى المزيد من أنسي، أو أننا كنا كسولين أو مشغولين بالشعر الثوري، الناظم للشعارات، يتسلط بها على المشاعر.. مع إصرارنا على تمييز محمود درويش، وبابلونيرودا وأراغون وآخرين، ممن تحولت الثورة في شعرهم إلى مقلع إبداع. وكنا أثناء قراءاتنا الصحافية في السياسة اليومية، نعثر على شيء من أنسي الحاج فنقرأ وتـَقـَر عيوننا.. ونقوم إلى صلاتنا، كأنما قصائد أنسي ماء قراح لوضوئنا وطهارتنا من غثاء السيل الأحوى (الأسود).. أي الأعشاب والحشائش اليابسة التي تطفو على سطح النهر في مواسم الهياج والعواصف والصواعق.
ولأنه ليس في يدي حيلة، والحمد لله على هذه النعمة، فلا أستطيع أن أصنع شيئاً، عندما يُعتدى علي، أو يظلمني صديق قديم يميل إلى قطع صداقاته وتحويلها إلى عداوات، بأن ينشر في مطبوعته نصاً عدوانياً ضدي أو أكثر، وإلى حد اتهامي بتهمة مضحكة تنم عن جهل الكاتب أو جاهليته، وهي أني عميل مخابرات صدام ! وأقاطع المطبوعة بانفعال لا مسوِّغ له في عالم الثقافة، ولكني بشر.. ولكن أنسي الحاج يلزمني بقطع مقاطعتي التي أخجل إذا عوتبت عليها، خاصة إذا كان معاتبي الأستاذ كريم مروة، الشيوعي العتيق والمستبصر بحيث أصبح يعشق أنسي ويعشِّق أحباءه به!

اقرأ أيضاً: تقاسيم على الأسود.. الموت الميسّر

وعندما أفضيت بمعاناتي مع أنسي فيما يعود إلى عدم المواظبة على قراءته طلباً للمعرفة والراحة، إلى أحد أصدقائي، لمست من ردّه علي، نية في التثريب والتخريب على أنسي الحاد وعلى أُنسي به، وإبعادي عنه، وقال لي مكشوفاً في كذبه، إن أنسي يتقاضى راتباً خرافياً من مموِّل مطبوعة معينة، يشتغل سياسة وأمناً فقط.. ولكن هذه المرة، لم أقع على عادتي، فريسة بساطتي وسرعتي في تصديق من أظن فيهم خيراً وحصافة وعفة، في لحظة ضعف أو غفلة، وتحصنت بالمعتق من حبي لأنسي، وسألت ابنتي ريا وصديقتها صديقتي مها زراقط، شريكة ريا في محبة شخص أنسي ونصه وحديثه وشفافيته وبساطته وعفة لسانه، وتواضعه المتعالي وصمته وسره وحيائه وشغفه بخمول الذكر المستحيل، وكفاءته في التدبير المنزلي من الطبخ إلى ترتيب الشراشف والمساند والوسائد والقصائد وقهوة الصباح وغيرهاوغيرها.. وأسعدتاني، ريا ومها، بخبر محبته لي وانتظاره للقائي الذي كنت أنتظره، ولكنه فاتني، ما سبّب لي شعوراً باهظاً بالذنب والنقص.. وعزيت نفسي باعتقادي أن عدم رؤيته ومحادثته كانت لصالح رؤيته في رؤيته، لأنه بعيداً عن المباشرة، يبقى أقرب إلى الأمثولة أو الأيقونة أو اللوحة أو القصيدة أو ما وراء الشعر، .. هذه تسلية مني لي، وقد كنت بحاجة إلى سبر أعماق هذا الاستثناء في المبدعين الكبار والذين تشعر أنت لا هم، بحاجتهم إلى أن يكونوا في نفوسهم بحجم إبداعهم. وتقديري أن أعماق أنسي كانت (ما زالت) تنطوي على شعر آخر أجمل وأجود من شعره الجيد.. وإني لأعتذر من كتاباته التي لم أقرأها، التي يصح لنا أن نقول فيها إنها (نوع) أنسي الأدبي أو الشعري، كما يمكن أن نقول ذلك في الماغوط، وبعض من الجيل التالي لهما.. وسوف أعوض على نفسي بقراءة تفصيلية متأنية ومتأملة لكل ما كتب أنسي، خاصة إذا ما ساعدتني ريا ومها، في جمعه، لأكتب مطولاً لنفسي ولعاشقيه، وأذهب إلى (قيتولي) جارة الشلال.. لأضع نسخة من مقالتي ووردة سكوكع بري، وزر ورد جوري وقصفة حبق وزيتون وورقة ليمون وزهرة كرز، وضمة عيزيقان من الجليل، وكمشة ياسمين من دمشق، وزعتر بري من دكاريج (قيتولي) على قبره.. وأتلو الفاتحة والأبانا.. وبعضاً من أورادنا المشتركة من وحي الله وإبداع أهلنا.. نحن أبناء طائفة جبل عامل، جنوب لبنان، شقيق الجليل، شمال فلسطين والقلب.. وسوف أرسم “لن” بكل ألوان لبنان القزحية وأعلقها على جدار عيني، ملتزماً بمدلولها اللغوي وإعرابها النحوي، ولن ألتحق بقطعان العصبيات، وأردد مع ربي في كتابه {قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، لكم دينكم ولي دين } .. شكراً أنسي الحاج على خواتمك، خواتيمنا ومحابسنا في الخطوبة والزواج، وأساورنا وأقراطنا وخلاخيلنا وأجراس مدارسنا وكنائسنا.. لقد حولتها من أداة (نصب) إلى وسيلة أو مفتاح حب وطريق أو طريقة إلى الحقيقة، حقيقة الشعر وضرورته وحريته في جماله وجماله في حريته. شكراً باسم لبنان الذي كان.. لبنان الماضي الذي نستقبله.. أنسي الحاج لم تمت ولن تموت.. ذهبت إلى مكان آمن، يكف فيه الشعر أن يكون قولاً جميلاً، يصبح حياة أجمل وأهنأ.. هنيئاً.
قلتُ لريا ومها بأني سوف أتمهّل في الكتابة شهراً، وعندما وضعت سماعة الهاتف، عرتني رجفة كرجفة النحلة عندما تمتلئ رحيقاً وتحسُّ باحتشاد العسل ومخاض الوضع ونداء الشمع.. وارتجف قلمي كقصبة في مهب ريح الحب والفقد والشعر، ثم انهمر حبراً ملوناً بالنرجس والأقحوان والحنطة وكان مدراراً، فكتبت ما كتبت بسرعة إملائية على غلاف ظرف ورقي أسمر وصلني صباحاً بيدِ محبٍ لأنسي، وكل الأنسيين المتفرغين للمودة، وتذكرت من صلاح عبد الصبور “لأن الحب مثل الشعر ميلاد بلا حسبان، لأن الحب مثل الشعر ما باحت به الشفتان، بغير أوان..”.

(من كتاب “في وصف الحب والحرب”)

السابق
السيد الأمين.. بين تجربتي «البعث» في العراق وسوريا
التالي
السيارات الكهربائية تنهي زمن الوقود الأحفوري