عودٌ حلبي… يحيي شامَ طرابلس

المناخ الفني هو جزء من نسيج طرابلس الشام..

“عودٌ وكمان” في مقاهي الفيحاء، صورة طربية عصفت في الأذهان رائحة الليمون، فانتعشت الذكرى بمحطات من “طرابلس” القديمة، طرابلس التي لم تشوهها الحرب، ولم تخطف القناصة السوداء خلخالها الراقص!

“عودٌ وكمان”، صورة “حلبية” في زاوية مقهى طرابلسي، تُحاكي في بعض أطرافها شارع الحمرا الذي تجتمع فيه الطبلة والمزمار على الطرقات فيصفق لعازفيها المارة ويتشاركون معهم بعفوية الدقائق القليلة المتراقصة. دقائق لا الموسيقي فيها يعرف صديقه المغني ولا المغني على صلة مع المتمايلين و”المهيصين” حوله.

“عودٌ وكمان”، صورة بسيطة في نغمها، “عميقة” لمن عاصر طرابلس المسرح والفن  والثقافة، طرابلس سينما “ريفولي” التي تداعت جدرانها، طرابلس  العلم والعلماء، مدينة القهوة والعود والصحف الصباحية التي يقرأها رواد المقاهي، طرابلس المدينة الفينيقية، التي مرّ عليها الرومان، والبيزنطيون، والعرب، والإفرنج، والمماليك، والعثمانيون.

طرابلس، صورة جدتي بـ “الشاشية” البيضاء المزركشة التي تغطي نصف شعرها، فيما النصف الآخر يبتسم للهواء، طرابلس صوتها وهي تغني لنا حول “المنقل”، وما بين أغنية والثانية تقيّم خطواتنا الراقصة الضعيفة.

طرابلس، التي يتفوق ماضيها حضارة على شوارع روما، وباريس، على عواصم الغرب التي لم تسبقنا إلى الفن، بل قدمنا لها ما لدينا، والتهينا بمناقشة مَن منّا إلى الجنة ومَن منّا إلى النار!

هذه الـ”طرابلس” التي سرق العمران المتوحش بساتينها، وسلبت الحروب لونها الغنائي، بدأت تستعيد عافيتها، فالموسيقى التي اعتكفت لسنوات خلت في البيوت والصالونات الضيقة، بدأت تخرج إلى الشوارع، وإن بحجل شرقي. خجل لم يمنع المحاولات الشبابية العديدة الهادفة لإحياء المدينة!

إقرأ أيضاً: الرسّام المتخفّي في بدلة رجل أمن: دانيال أبي اللمع

أجواء الفيحاء التي تتنهدة”حياة”، اخترقها في الأونة الأخيرة، عود وصوت “حلبي”، يجلس بين الفينة والأخرى في مقاهي المدينة محتضناً آلاته ومطلقاً العنان لصوته.

هو جوزيف حداد، موسيقي سوري غربته الحرب فأتى منذ عامين ونصف العام إلى طرابلس الشام.

مسرح “حداد” الحالي هو مقهى “الدرج” في منطقة “التل”، هناك يجلس كل ثلاثاء وخميس، هامساً للعود ومدللاً الكمان، ومحدثاً معشوقته بسلّة من الأغاني القديمة التي تعيدنا إلى زمن صباح فخري و وردة وأم كلثوم وملحم بركات..
لا يهجر “حداد” الحبيبة الأولى، فما بين أغنية وأغنية تتربع القدود الحلبية، ومع أجواء الأصالة التي ترافق جلسته إلا أنّ التفاعل الطرابلسي مع هذا المشهد الحلبي ما زال خجولاً، فالعيون التي تحيط بحداد حينما يعزف ويغني وحدها من ترقص إعجاباً فيما الخصور لا تفارق الكراسي حياءً.

 

في دردشة مع “حداد” على هامش الليلة الحلبية التي قدمها لرواد المقهى، يتحدث عن أخر سنواته في سوريا، وعن عوده الذي قاوم عازفاً في صمت الحرب حتى خارت النوتات متعبةً، مما لم يترك لإبن حلب من خيار إلاّ المغادرة.
الموسيقي الآتٍ من بيئة لا تعرف إلا الفن، ومن بيوت حلبية لا تخلو من العزف والغناء والتجمعات، يتحدث عن الواقع الذي وصلت إليه حاضنته، فلا الصوت عاد هو نفسه ولا العزف عاد له من صدى!

 

إقرأ أيضاً: الرسّامة نجلاء حبيش: هكذا ترسم بيروت نفسها.. بالموسيقى

السابق
فيلم كفرناحوم: شهيق البؤس وزفيره في المجتمع السفلي
التالي
قَدَرُ العرب