عبد الجبار الرفاعي حيث الإسهاب إيجاز

{لا تحرك به لسانك لتعجل به}.
إذا اشتغل اللسان وحده، كما في سيرة الحمقى، فإنه يجمح، يثرثر فيؤذي.. ألا يؤذينا هؤلاء الثرثارون في بلاد العرب ولبنان وبلاد المسلمين، في ما يُنزّلونه على السياسة، ولا ينزل.
وإذا اشتغل القلب وحده، فإنها مَشْغَلة، لأنه يفيض، إلى آخر الليل وآخر الحب، وعمق الروح، وثمالة الحبر، وسلاف اللغة.. فلا يبقى هناك.. أو هنا.. أو هنالك، وقت يتسع للإنصات له.
فإذا اشتغل العقل وحده، حفر، نقّب عن الحقيقة، ونحَتَها، وزيّنها بالسؤال والاحتمال مع احتمال جفاف ما.. ولعل أحلى وأصعب ما في أمر القول، هو التركيب أو التأليف، الذي لا يتم إلا بتآلف وإلف وألفة.. وإيلاف، أي تأليف الورشة اللازمة والكافية، لتشغيل العقل والقلب واللسان.. أو القلم، معاً، بمساواة بين الجميع، بشرط العدل، تحقيقاً للانسجام، على ما يعرف أفلاطون العدل.

اقرأ أيضاً: المدينة وأهلها ليالي الأنس في فيينا

من هنا، أو هنا، يتموضع الفكر والفن والإبداع، كتاباً، مجلة، وتلاميذ، يجمعون في حقائبهم أو سلالهم المعرفية، من صحبتهم لأستاذهمالدكتور عبد الجبار الرفاعي ، علماً إلى خلق.
لا يظننَّ أحد أن أصدقاء وزملاء، وحتى أساتذة عبد الجبار الرفاعي، أقل انتفاعاً بعقله وقلبه وحبره السخي ولسانه الدافئ على مُضاء.. والقاطع، إذا اقتضى المقام، فصار الكلام كلاماً.. غير أنه لا يجرح إلا ليعالج، يستأصل البثور وبذورها.
ويجتث الخلايا الخبيثة من الذاكرة والرؤية، ليزدهر الحلم، وبدل أن ينزّ الجرح دماً، يفوح علماً ويضوع عطراً.
أنا من الأصدقاء، الذين يلتبسون عامدين، بتلامذة عبد الجبار الرفاعي.. ولكن من أجلي، ربما حصراً، أي من أجل معارفي التي لا تنمو إلا بالتعدد والاختلاف والحوار، لتبلغ ذروة التوحد.
من أين تأتي خصائص عبد الجبار الرفاعي ؟ تأتي من تركيبها وتركبها على جدل غني بقلقه، ومن تعدد مصادرها الروحيةوالمعرفية المفتوحة على كل الجهات، كدحاً نحو هوية تحنطها الكينونة، وتحفظها السيرورة، وكان يمكن أن لا يظهر هذا التركيب أو التعدد، الذي يتغذى من الاختلاف وينمو مطرداً على محبة وشراكة، لولا أن الرفاعي قد اتخذ مبكراً قراراً نهائياً وفدائياً، بالحرية، وفي الحوزة العلمية الدينية، القائمة على الحرية، والتي كلما حاصرتها السلطة لتستلحقها ازدادت عشقاً للحرية، فقيه حرّر العمامة من أعبائه، عندما تحرر من أعبائها، وأحالها مرموزها العلمي الحضاري والأخلاقي، إلى قلبه وعقله وذمته، حرر وقته وعلائقه وحركته ومكتبته، من زمان الحوزة الراتب، ومكانها المشددة الحراسة فيه وحوله، من دون أن يخطئ في تعيين مسار الإصلاح المجدي، من الداخل..

اقرأ أيضاً: لا فرق بين المسيحي والمسلم إلا في أكل البزاق

تحرر من المذهبية فحرر المذهب، عندما استراح في ظل الرسول وفضاء الرسالة، وكنف الأئمة، مرتاداً بيوت الرسالات ومقامات الفلسفة، يبحث عن الإنسان، ليأنس ويؤنس ويؤانس، إذ يتأنسن..
أجدني مضطراً إلى تشغيل العقل أكثر، حتى لا يتفرد القلب بعبد الجبار الرفاعي، وفي القلب له ومنه كثير، قد يعني الإطالة في عجالة.. مع ان الإطالة أو الإسهاب في الأخيار، الكادحين، والمبدعين، يشبه الإيجاز وأحياناً يصبح إيجازاً مُخلاً.
أحيي الرابطة الثقافية في إنطلياس، المشغولة، من بداية الحرب وخلالها، وفي هذا السلم المقدمة للحرب، أو الحرب، بما لا ينشغل به إلا كبار الكبار، هماً وهمة، رؤية وذاكرة وأفقاً.

(من كتاب “في وصف الحب والحرب)

السابق
الزغبي لـ «جنوبية»: الإتفاق الروسي – التركي سيخفض سقوف «حزب الله – عون» في تشكيل الحكومة
التالي
عن الدور الذي لعبه الموروث العائلي في تكوين شخصية السيد محمد حسن الأمين