رياض الترك.. مراجعة ضرورية لكنها ناقصة

يطرح القيادي الشيوعي المخضرم رياض الترك، في مقابلته مع الصحافي علي الأتاسي، والتي نشرت في صحيفة القدس العربي (2/9/2018)، عناوين المرحلة النقدية المقبلة للثورة السورية.

وقد غابت عن هذه المراجعة العناوين الأصعب على نفسِه، وعلى نفس أي عقائدي، قيادياً كان أم عضو خليةٍ بسيطا. أعني نقد الذات، بدايةً، وضعَ العناوين العريضة له، في مقابلةٍ مطوّلة أتاح له فيها الأتاسي التعبير عن كامل أفكاره. ومن حلقة “الذات” الحزبيّة، نقد الحلقة الأقرب، أي حاملي ما يشبه هذه العقيدة؛ ومنهم تلك المروحة الواسعة من الأحزاب والجمعيات والتنسيقيات والشخصيات؛ الشيوعيون، الاشتراكيون، العلمانيون، التقدميون، الديمقراطيون، الليبراليون.. وجميعهم معارضون للنظام. وكانت هذه الدائرة الأقرب تستحق عنواناً نقدياً حقيقياً، وليس ذاك النقد المكرَّر الشائع، والدائر حول الثلاثي: عسْكرة، تدخل خارجي، أسلمة. الخطأ الأول، العسْكرة، يستسهل الترك نقده، بالحجج المعروفة أيضاً، ويرفع من شأن حزبه من أنه نأى بنفسه عن حمل السلاح. وكأن جميع الذين حملوا السلاح، في بدايات الثورة، كانوا يصيبون العسْكرة التي نعرفها الآن. أما التدخل الخارجي، الخطأ الثاني، فهو أيضاً من بنات عقل إرادوي، يرى أنه، أي التدخل، “ليس حتمياً”. وأنه كان يمكن تفاديه (كيف؟ بمجرّد الوعي به؟). وما يضيفه الترك عن التدخل الخارجي هو مباركة حزبه الذي يقوده على الحذر من هذا التدخل، والتنبيه المبكر من نتائجه السلبية على الثورة. ثالث الأخطاء، الأسلمة، ويروي رياض الترك عنها قصّة تسلّل الإخوان المسلمين السوريين إلى الأطر التمثيلية للمعارضة، منها “المجلس الوطني”، وقد ملؤوه بوجودهم، عبر أقنعة الجمعيات والعشائر.

إقرأ ايضا: دلال البزري تفْتَحُ «دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية»…

لا شيء طبعاً عن الفصائل الإسلامية، عن التنظيمات السلفية، عن المجموعات العسكرية “أن تكون أولوية السوريين الآن هي مقارعة الاحتلالات كلها فهذه فعلاً بداية مراجعة” الجهادية، ولا أيضاً عن بيئاتها الحاضنة، وعن الهيمنة الفكرية للإسلام الاصولي، وعن مظاهر الأسلمة المتجدّدة لدى النظام. كل الموضوع تنظيميّ عنده، يقتصر على العالم الإداري الضيق للحزب الناشط بتحالفاتٍ أو لقاءاتٍ مع أحزابٍ وجمعياتٍ أخرى. كان الأجدر بالترك أن يرسم الخطوط العريضة للذين يشبهونه، قبل أن يتعرّض لخصمه اللدود، حليفه المفترض ضد بشار الأسد، ويدعوه هو أيضا إلى مراجعةٍ نقديةٍ لتجربتهما المشتركة منذ اندلاع الثورة السورية. هنا يبدو الترك مستعجلا، يقفز فوق التفاعل مع الرفاق الأقربين، وليرسم تحالفاته مع “الإخوان المسلمين”، كأنه يريد حرق المراحل. ولكنه أيضا بطيء، ما زال متوقفاً عند خلافاته الأخوية الأولى مع أولئك الأبعدين؛ والتي تبقى جوهريةً من منظاره الحزبي السحيق. فيغيب المدى القريب عن مخيّلته. ولا يراوده السؤال من أن انكبابه على مراجعة التجربة مع الإخوان المسلمين قد تبعدُه عن الأقربين، وتساهم بتشتّتهم وبعثرتهم فرقاً صغيرة، ولا مجال ساعتها غير معاملة “الإخوان” بصفتهم “الكتلة الأكثر حضوراً” في مجالس المعارضة السورية.

الترك رجل مفوّت، والتفويت طبيعي لديه، وكلنا مهدّدون به مع مرور الوقت. هو الوقت المسؤول الأول عن ثبات العقيدة على ما كانت عليه أيام عزّها. في نص المقابلة كلماتٌ مثل الكليشيهات القديمة من نوع “إنها جولة من جولة الصراع ولم نخسر المعركة”، أو “شعوبنا اليوم هي من يصنع التاريخ”. وهذا الكليشيه بالذات العائد إلى زمن الاستقلالات، حيث كانت الشعوب تنهض للتحرّر من الاستعمار، ليس له مكان للترجمة على أرض الواقع السوري، والعربي أيضاً. بل انقطاع أهل هذه الأرض عن التاريخ أصبح صارخاً، يطنّ الآذان. ومع الكليشيهات تعيش أفكار عتيقة، مثل الحياء من الطائفية، وإنكارها. على سؤالٍ بشأن “الشرخ الطائفي السوري”، يجيب الترك بعباراتٍ كلها صحيحة، منها أن العلويين دفعوا أيضا ثمن الحرب، وإنه هو غير مقتنع بأن الطائفة العلوية تتمثل ببشّار. أفكار صحيحة، ولكنها مثل حجابٍ يريد أن يستر العيوب الخلقية للدولة؛ وهذه ممارسةٌ اعتمدها يساريون كثر في قديم الأيام؛ تجنباً لوصمة التخلّف، أو لخدش حياء العقيدة الحداثية. ولكن هذه العقيدة بعيدةُ عن السؤال والجواب، وعن الواقع نفسه.

فضلاً عن تناقضٍ صارخ، لا يبدو رياض الترك منتبهاً له، ربما من شدّة شفافيته: فهو الخارج
“إنه زعيم حزبي قديم، أي أنه صاحب سلطة، هو أيضاً، على مجموعةٍ من الناس، هم أعضاء حزبه” من سورية، بعد ثلاثة أيام من المشي شمالاً، والتخفّي، ومساعدة أصحاب شهامة؛ والواصل إلى فرنسا، ناجياً.. هو نفسه الخارج لتوه من سورية.. يعيد ويزيد على امتداد المقابلة إن الأولوية الآن لدى السوريين المخلصين هي العودة إلى سورية، والثبات فيها، فمن قلبها سوف يقاومون ويغيّرون. وسؤال التناقض بسيط: يخرج من سورية ويدعو الناس إلى العودة إليها. ربما هناك دور يريد أن يلعبه، وهو في هذا الخارج، دور مفيد للثورة السورية. يكتب عنه علي الأتاسي بإعجاب وحميمية، ويصفه بـ”الأيقونة”. فهل يكون دوره أيقونةً وحسب؟ ونكون ساعتها أمام “أنا” سورية معارِضة أخرى، تُضاف إلى “أنوات” سبقتها؟

ليست المراجعة كلها عيوبا: فأن تكون أولوية السوريين الآن هي مقارعة الاحتلالات كلها، فهذه فعلا بداية مراجعة. ولكن أن يمنع الترك على الثورة العسكرة والتدخل الخارجي، وأن يرفض، في الوقت نفسه، وضع الديمقراطية جنباً إلى جنب مع مقاومة الاحتلال، ويدلي بذلك كله بنَفَس “حركات التحرّر العربية”، العائدة إلى عصر الاستقلالات… فهذا جدير أيضًا بالنقاش، وبالتركيز على “الكيفية”: كيف نقارع؟ كيف نقاوم؟ بأية أدوات؟ ضمن أي صيَغ؟ عبر أي هيئاتٍ تمثيلية؟ الكيف له الأولوية الآن. وليس “الماذا؟”، الرائج، السهل.

إقرأ ايضا: «ميراث أبي»… روايةٌ أُولى لدلّولة حديدان

هل يكون مبكّراً الغوص في هذه الصعوبة؟ ربما، فرياض الترك، الآن، مثل ملايين السوريين، خارجٌ من الحرب، وبه تعبٌ عميق. مناخ نفسي- سياسي لا يثمر فيه النقد، ربما. ثم إنه زعيم حزبي قديم، أي أنه صاحب سلطة، هو أيضاً، على مجموعةٍ من الناس، هم أعضاء حزبه. وصاحب السلطة هو آخر من يستطيع الخوض في نقد تجربته؛ إلا بضغط. في المقابلة، بعد تبيان أخطاء الآخرين، لا أخطائه، كان شديد الحرص على “تفسير” حادثةٍ معروفةٍ، عبّر فيها عن تسلّطه: تبريره قساوة توبيخه رزان زيتونة، على مشاركتها في مؤتمر رأى فيه “تدخّلاً”، والتلميح إلى خطأ قرارها بالعمل في دوما… ثم إلحاحه على “الشباب” لينخرطوا في الثورة، مثل تعويذة تبعد عنه الطابع التسلّطي.

وفي المقابلة، على الأقل، لم يكن أبداً مضغوطاً…

السابق
الشيخ حسن مشيمش: لا أؤمن بهذا التشيع؟
التالي
حزب سبعة : سنواجه الفاسدين في كفرسلوان بعدما حوّلها اعداء البيئة لساحة مستباحة