العلماء الذين أثّروا بسماحة العلامة الأمين على المستوى الفكري والديني

محمد حسن الامين

التأثر بالوالد
قلتم أنّكم عشتم مع والدكم 14 عاماً فقط، ولكنّني أشعر أنّه ما زال حضوره قويّاً في شخصيتكم، يعيش معكم كثيراً في وِجدانكم، وتعيشون معه لتاريخه، كما أشعر أنّكم متأثرون به كثيراً رغم عدم إدراكي له؟
قد يكون المرء محرجاً بالكلام عن والده، إذ سألتني وكان لديك حدس معتدّ به أنّ شخصيتي متأثرة جداً بشخصية والدي فإنّ حدسك في محلّه.
واستطراداً للجواب السابق فإنّ أحد أمنياتي كانت أن يكون لديّ الكثير من الصفات والمزايا والشخصية التي كانت للوالد، سواء من الجهة الدينيّة والعلميّة، وعلى الأخص الشخصيّة القويّة المميزة، والتي يعرف كل من عاصره أنّ أحداً لم يسجل عليه هفوة في حياته، وأنه كان شخصية مهابة، أبرز صفاتها الأنفة والسلوك المعتدل الصارم، والشجاعة في قول الحق، مما جعل له ـ وهذا ما أدركته أنا شخصياً ـ مهابةً عامّة، وخاصّة عند الزعامات والوجاهات التي كانت في عصره، فهو لم يزر زعيماً على الإطلاق، بل لم يوافق على استقبال أي زعيم إذا كان هناك مناسبة انتخابات، حيث المرشحون يحرصون على زيارة الناس جميعاً وخاصّة العلماء الكبار.

اقرأ أيضاً: الطفولة والمسؤوليّة المبكرة للعلاّمة الأمين

وكان يحترم نفسه إلى درجة كبيرة جعلته موضع ثقة في المحيط كله، بحيث كان يفتتح مجلساً للشريعة مرّة أو مرّتين في الأسبوع ـ كما أسلفنا ـ وكانت كل القضايا حتى المعقّدة منها، التي تعرض عليه، يصدر فيها أحكاماً لا تلقى من أحدٍ ـ وحتى من القضاة، والقضاة المدنيّين ـ إلاّ كل التقدير والخضوع.
ولا أذكر أنني شاهدته ـ أو شاهده أحد ـ يمشي في الشارع وحده، بل لم يكن يخرج من المنزل إلا للضرورات القصوى، وخاصّة لمناسبة عزاء بمتوفٍّ، وأمّا العقود الشرعية ـ عقود الزواج ـ فإنّ الزوجين كانا يحضران إلى ديوانه، وهذا لم يكن مألوفاً كثيراً، بل كان رجال الدين يذهبون مكان العرس، أمّا هو فلم يفعل ذلك، وإنما كان يرسل أحد المؤمنين لإجراء العقد.
لم يكن غنياً بالوراثة، بل لم يكن متطلباً، ولم يكن يتقبل الهدايا، سوى الحقوق الشرعية التي يذكر أنه كان يبادر إلى توزيعها مباشرة، دون أن يعني ذلك أننا كأسرة كنا في حالة حرمان، فقد كان متمكّناً بموجب الثقة التي يتمتّع بها أن يصرف على بيته إلى حدّ الرفاهية، ولكنه لم يفعل ذلك على الإطلاق.
أنا لا أريد أن أتحدث عنه عالماً مجتهداً كبيراً، فهذا أمرٌ معروف، ولكن أهمّ ما أتذكره ويلفتني الآن أنني لو وزّعت عمره على أطوار وأدوار، لوجدت أنّ إقامته في مكتبته ـ حيث غرفته الخاصّة وكتبه ـ قد استغرقت أكثر أطوار حياته على الإطلاق.
وكان لديه القدرة على استحضار المسائل بتفريعاتها وملابساتها بطريقة مميزة، فهو قضى عمره القصير نسبياً، ومنذ ولادته في بيت والده العالم الكبير السيد محمد حسن الأمين + في الدرس وتلقي العلم منذ نعومة أظفاره وصولاً على سن العشرين، حيث كان قد ذهب إلى قرية طيردبّا، حيث كان العالم الكبير المشهور الشيخ حسين مغنية، وتلقى عليه الدروس العالية للدرجة التي قال له الشيخ حسين مغنية، وهذا ما نقله لي المرحوم المقدس الشيخ حسن عسيلي، قال الشيخ مغنية للوالد: إنّني لم أعد أستطيع أن أفيدك هنا، فيجب عليك أن تتوجه إلى النجف الأشرف، وهكذا فعل، وأقام حوالي الخمسة عشر عاماً، وكان مشهوراً بالانكباب على التحصيل العلمي، والدرس والتدريس، حتى توفّي والده، فعاد إلى لبنان واستطاع خلال فترة قصيرة نسبياً ـ لا تتجاوز العشرين عاماً ـ أن يُوْجِد له هذه المكانة التي تحدّثنا عن بعضها.
في مجال العاطفة كان يملك عاطفة كبيرة جداً، ولكن بناء شخصيته وحضوره المهاب كان ربّما يحول دون ظهور هذه العاطفة ظهوراً واضحاً وفاضحاً، ولكنه في أسرته لم يكن يخفي هذا الوضوح، وقد كان يردد حديث رسول اللهw بشأن الأبناء في قولهt: «اتركوهم سبعاً، وعلموهم سبعاً، واصحبوهم سبعاً».
لذلك فإنّي منذ بلغت السابعة من العمر بدأ بفرض الدرس اليومي عليّ رغم دخولي المدرسة الرسميّة. وأذكر أنني أتقنت اللغة العربية، وحفظت الكثير من الشعر في وقت مبكر جداً، كما أجدت قراءة القرآن الكريم، وحفظت بعضه وتعلّمت أحكام الفقه التي هي محل الابتلاء، وكان قد ألزمني بالصلاة منذ سن السابعة أو أكثر بقليل، ولكني أعتبر أنّ الأساس العلمي واللغوي لديّ استند إلى هذه السنوات السبع، والتي لا أنسى أنّه حببني بالأدب، لأنه كان في الوقت نفسه يتذوّق الشعر وينظمه، وله قصائد كثيرة، فكان يفرض عليّ حفظ الكثير من القصائد، وهذا ما جعلني أهتمّ بكتابة الشعر في وقت مبكر جداً، وبدأت بنشر قصائد في سن السادسة عشر…
هذا كان حصيلة (وعلّموهم سبعاً) التي إلتزمها معي، وقد انتقل إلى رحمة تعالى وأنا في سن الرابعة عشر، فانتقلت تواً إلى النجف الأشرف، وقد سهل عليّ كثيراً منهج الدراسة هناك بسبب هذا التمهيد الذي تلقّيته على يد هذا الوالد، الذي أعود فأقول دون تواضع أنني معجب بشخصيّته إلى الدرجة التي لا أبالغ إذا قلتُ: أنّني لم أجد مثيلاً لها، دون أن يعني ذلك أنني أنكر وجود رجال عظام، وقد عرفت منهم الكثير، ولكنني حتى الآن، ما زلتُ أرى في هذه الشخصية مثالي الأعلى.
وقد يكون ذلك ضرباً من ضروب الانحياز ـ والله أعلم بذلك ـ فالمرء ينحاز لأبيه، ولكنني بصدق قيّمته تقييماً موضوعياً، وأرجو أن لا أكون قد بالغت في ذلك، ويعزز لديّ هذا الاتجاه هو الكثير من الأشخاص الذين ما زالوا أحياء ممن عرفوه في المنطقة وغيرها، عندما يتحدّثون عنه وعن شخصيّته ومآثره.
سؤال: قلتُم أن الوالد+ مارس التدريس في النجف الأشرف.. فهل مارسه في لبنان بعد انتهاء هجرته العلميّة؟
لم تكن الظروف مهيّأة، حيث لم تكن قد انتشرت الحوزات العلميّة، وكان من طبيعة العلماء العمل فيما يتعلّق بحلّ المسائل والمشاكل الشرعيّة بين المراجعين، كما كان يقضي معظم وقته في المطالعة والتدريس، ولم يمهله العمر لكي يخرج المؤلّفات التي كتبها في الفقه الإستدلالي، وحول نهج البلاغة، وهي أبحاث قيّمة، ويُؤسفني أنّها ذهبت حريقاً في مكتبته في شقراء، أثناء العدوان الإسرائيلي، وتبقّى منها الشيء اليسير.
سؤال: ومَن هم العلماء الذين أثّروا فيكم على المستوى الفكري والديني ؟
فضلاً عن تأثري بالوالد+ ـ كما مرّ ـ وهو كان ضليعاً باللغة العربية، وكان فقيهاً كبيراً، ثم قضى حياته بالدراسة، وكان سلوكه في لبنان أميز من كثير من العلماء…
فقد تأثّرتُ بالشيخ محمّد رضا المظفّر، الذي أدركته في بداية ذهابي إلى النجف الأشرف، وهو أحد العلماء الإستثنائيين، لجهة شخصيته وعلمه، ونزعته الإصلاحيّة العلميّة المميّزة، وهو مؤسس جمعية منتدى النشر التي أسست كليّة الفقه، استناداً من المرحوم المظفّر إلى منهج دراسة الحوزة العلميّة المعروف بالنجف بحاجة إلى التطوير من جهة، وبحاجة إلى إضافة علوم معاصرة من جهة أخرى، كالأدب وعلم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والفلسفة الإسلاميّة والفلسفة الحديثة.

السيد محمد حسن الأمين
وقد لاقى في سبيل إنجاز هذه الكلّيّة الكثير من النقد القاسي من مجتمع الحوزة المغلق، لكنّ ثباته وإصراره، وشخصيّته المميّزة جعلته يتجاوز كل العقبات، ويجعل حتى المراجع يعترفون بهذه الكلّيّة، وبهذا النهج الإصلاحي الذي أسسه.
هذا من جهة، وهو مجرد عنوان صغير لشخصيته الواسعة، وأمّا بالنسبة لي شخصيّاً، فإنّه أتيح لي منذ السنة الأولى أو الثانية لوجودي في النجف أن أوفّق إلى زيارته في منزله مع بعض الطلاب الأسبق مني والأكبر سناً بكثير، وقد اجتذبني هذا الرجل بسمو أخلاقه وبشخصيته، التي يمكن القول أنها كانت تملك (كاريزما) مميّزة، مع تواضع تشعر معه بالإجلال والإحترام، بسبب علو شخصيته التي عادة ما يصبح الأشخاص الذين يمتلكونها ـ أو يمتلكون شيئاً منها ـ تبدو عليهم ظاهرة الكبرياء والإعجاب بالنفس، فهو كان من التواضع بدرجة أنّه يتحدّث في مجلسه لا بوصفه معلماً، بل كأنّه واحد من هؤلاء الطلاب المجتمعين.
وقد تعلّقتُ بهذه الشخصيّة، وأتيح لي أن أشهد مواقف كثيرة له، ومنها ـ على سبيل المثال ـ ما ذكرته آنفاً، خلال زيارة المرحوم الشيخ محمّد جواد شري إلى النجف آتياً من الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وقد كان الشيخ شري في ضيافة الشيخ المظفّر، وأذكر أنه قبل توديع الشيخ المظفّر، عندما أراد الرجوع قدّم الشيخ شري مبلغاً من المال، كان في ذلك الوقت مبلغاً كبيراً جداً، هديّة شخصيّة للشيخ المظفّر، لأنّه يعرف أن الشيخ المظفّر ليست عنده موارد ماليّة خاصّة، وقال له: هذا مبلغ لك شخصيّاً، أذكر أن الشيخ المظفّر ابتسم، وكنّا في قاعة الإدارة ـ الشيخ المظفّر والشيخ شري وأنا ـ وشكر الشيخ على ذلك ثمّ طلب من الحاجب أن يستدعي المدير المالي لمؤسسة كليّة الفقه ومنتدى النشر السيّد هادي فياضq، وأمسك بالمبلغ، وهو في ظرف كبير، وقال له: سجّل هذا التبرّع من سماحة الشيخ لمؤسسة منتدى النشر وكلّيّة الفقه. وحين أصرّ الشيخ شري على أنّ هذا المبلغ للشيخ المظفّر، فضحك مرّة أخرى وشكره كثيراً، وقال له: إذا كان هذا المبلغ للمؤسسة فأنا أكثر امتناناً من أن يكون لي شخصيّاً.
هذه لمعة ولكنّ دلالتها كبيرة على سمو هذا الرجل، وعزوفه عن المال رغم أنّه كان يعيش كأي واحد من طلاب العلم شبه الفقراء.
حبّبني درسه عندما دخلتُ كليّة الفقه، ولم يكن يترفّع عن تدريس الطلاب الجدد في السنة الأولى، وهو صاحب شهرة بالمعرفة وبالعلم، وخاصّة في درس الفلسفة، فهو معروف بأنّه أحد كبار أساتذة الفلسفة، وهو مؤلّف كتاب المنطق، الذي أصبح فيما بعد كتاب التدريس الأوّل في الحوزة العلميّة، وكتاب أصول الفقه، الذي أصبح الكتاب الأشهر في الحوزة العلميّة.
وأعتقد أن أسلوبه المميّز هو صاحب الفضل بالنسبة لي ولغيري أيضأ في تفتيح عقولنا على حبّ المعرفة، وحتى على فهم المسائل المعقّدة، سواء في الفلسفة أو في أصول الفقه، والتي كان يجيد شرحها وإيضاحها بصورة لم أعهدها لدى الكثير من علماء النجف الذين درستُ عليهم.

كما تأثرتُ بشخصيّة أستاذنا المرحوم السيّد محمّد تقي الحكيم، وكان عالماً موسوعيّاً كبيراً، وكاتباً مبدعاً، وفقيهاً وأصوليّاً مميّزاً، وقد درسنا عليه مادّة أصول الفقه المقارن خلال السنوات الأربع في كليّة الفقه، وقد تحوّلت محاضراته في هذه المادّة إلى كتاب ضخم أصدره في حينها، وقد كان له صدى كبير، ليس في النجف الأشرف فحسب، بل في الأزهر الشريف، وفي المعاهد الدينيّة الكبرى، وكما في جامعة القرويين في المغرب، وغيرها، وما زال هذا الكتاب مرجعاً أساسيّاً في موضوع أصول الفقه المقارن.
وكان يتمتّع إلى جانب ذلك بالأخلاق العالية، والتواضع، ومحبّة طلابه، وحرصه على إفادتهم، وإن كان قليل النشاط في المجال الإجتماعي فقد استغرقه العلم والبحث والتنقيب والإنتاج المعرفي، وهو من أعلام تلك المرحلة في النجف الأشرف.
وتأثّرتُ بصورة عميقة بالمرحوم الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر، الذي لم أحضر دروسه كثيراً، ولكنني كنتُ ألتقيه أحياناً في مجلسه العام، وأحياناً في لقاء شخصي، وكان يشجعني ويستمع إلى رأيي في بعض مؤلّفاته، وخاصّة في مجال الفلسفة، وفي أدبياته الإسلاميّة.

اقرأ أيضاً: التكافل الاجتماعي ورعاية الأقارب في النجف

وهو رجل دين ذو خلق عالٍ، وتواضع نادر، ولا أستطيع أن أشرح في هذه العجالة جوانب هذه الشخصيّة النادرة والمعروفة، والتي شكّلت منعطفاً أساسيّاً وكبيراً في الفكر الإسلامي الإحيائي، والتي اتسعت اهتماماتها ومشروعها الديني الحضاري لدرجة جعلته هدفاً للنظام السياسي الدكتاتوري الحاكم في العراق.
وانتهى الأمر إلى استشهاده على يد هذا النظام، شعوراً من النظام أن هذه الشخصيّة آخذة في استقطاب النخب العراقيّة، وحتى الشعب العراقي، وعجز النظام عن تحجيم هذه الشخصيّة، فلجأ ـ على طريقة النظم الإستبداديّة ـ إلى إعدامه مع شقيقته، كما هو معروف ومشهور.
وفي رأيي أن هذا الشهيد كان أحد أبرز المفكّرين الإسلاميين في عصره، وأبرز المجددين في الفكر الإسلامي عموماً، وأكثرهم عمقاً، ولعلّه المفكّر الوحيد الذي أسس إيديولوجيا متكاملة في الفكر الإسلامي فقهاً وفلسفة وسياسة، وكان على اطلاع واسع وعميق في اتجاهات الفكر المعاصر، الأمر الذي ساعده أن يؤسس لإيديولوجيا إسلاميّة تشكّل في كثير من جوانبها تحدّياً علميّاً وأدبيّاً للكثير من الفلسفات المعاصرة الحديثة.
وهذا ما جذب إليه نخبة واسعة من المثقفين العراقيين بالدرجة الأولى، وعلى امتداد العالم الإسلامي، كانت في تقديري ستتوسع وتتعمّق أكثر فأكثر لو أتيح له أن يبقى حيّاً، وهو الذي استشهد وكان دون الخمسين من عمره المبارك.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج العاملي)

السابق
احلام كما لم تروها من قبل..
التالي
تحوّلات عراقية بين إفشال إيراني ومحدودية أميركية