قصص عن الإمام موسى الصدر من ذاكرة الشاعر نزار الحرّ

الشاعر نزار الحرّ (1931 - 2011) ، كانت تجمعني به قرابة (ابن عم والدتي)، وجمعتني به جلسة مهنية تحوّلت إلى جلسة وجدانية، وذلك بسبب فيلم وثائقي كان لي شرف المشاركة بإعداده وعنوانه "سحر الغائب" يتحدّث عن سيرة الامام المغيّب موسى الصدر، للمخرج الصديق محمد سويد وهو الذي ما زال يشغل منصب رئيس قسم الأفلام الوثائقية في محطة "العربية".

نزار الحرّ هو نفس الشاعر الذي ألّف نشيد حركة أمل ومطلعه “حيّ على خير العمل للمجد هيّا يا أمل” وكان يعمل في الإذاعة اللبنانية، ألّف قصائد لحنها وغناها كبار الفنانين اللبنانيين أمثال وديع الصافي وصباح ووداد وفليمون وهبي وغيرهم.

ولكن ما الذي جمع الإمام الصدر بالفتى اللاهي الشاعر نزار الحرّ؟

سؤال أجاب عنه نزار بصراحته وطلاقته المعهودتين:

أنا كنت أعمل في الإذاعة اللبنانية وأنا ابن عائلة من المشايخ آل الحرّ العريقة من بلدة جباع، ولم يخطر ببالي وأنا الذي كنت “عسيراني الهوى” سياسياً، نسبة إلى الزعيم الجنوبي ورئيس المجلس النيابي الأسبق عادل عسيران، أن أصبح يوماً ما مسؤول “المكتب الاجتماعي” في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ولكن هذا ما حدث، فبعد لقاء قصير جمعني مع الإمام في بلدتي جباع اتصل بي في بيروت وتوطدت علاقتي به بداية السبعينيات من القرن الفائت، ثم عرض عليّ أن أتسلّم هذا المنصب لسبب وحيد ومهم جداً، وهو الأمانة، قال لي أنت ابن عائلة وسمعت عنك أنك نزيه ونظيف الكف.وخبرت أخلاقك عن قرب فوجدتك طيباً دمث الأخلاق ليّن العريكة مع الناس وهذا ما أريده ممّن يجب أن يتولى مسؤولية “المكتب الاجتماعي” في المجلس الشيعي.

قصص وأخبار عديدة رواها لنا الشاعر الراحل في الجلسة التي سبقت جلسة تصوير فيلم “سحر الغائب”، وكان المخرج محمد سويد ثاني من يستمع.

عن علاقته الشخصية بالإمام يقول أنه وفي إحدى المرات أحب أن يشارك الإمام في صلاة الظهر التي كانت تقام في مبنى المجلس الشيعي يومياً في الحازمية، وكان الإمام الصدر يؤمّ موظفي المجلس ويصلي فيهم صلاة الظهر ويخطب خطبة قصيرة.

وتابع أن الإمام الصدر عندما كان يلتفت إليه أثناء الخطبة ويراه جالساً بين الحاضرين بعد الصلاة لأول مرة كان يضحك ثم يتابع الخطبة مبتسماً، وبعد نهاية الصلاة قال له الإمام ضاحكاً “أنت معفي من الصلاة خلفي يا “شيخ نزار”، وتفسير ذلك أن الإمام كان يعلم أن شاعرنا لا يصلي والظاهر أن الحرج الذي بدا على الشاعر الظريف أثناء الصلاة تسبب بضحك الإمام، وأصبح الحرج بذلك مزدوجاً!

 

لبنان أم إيران؟

يقول الشاعر نزار الحرّ ان عمله كان يقضي بمساعدة الطبقة المحرومة من ابناء الجنوب والبقاع والضواحي، وان الامام كان يقول له: لا تسأل احدا عن انتمائه السياسي، كل من يأتيك من هذه الطبقة المحرومة يستحق المساعدة وتأمين عمل شريف له يستره ويستر عائلته.

ويتابع نزار: في إحدى السهرات مع الإمام في منزله الكائن في الطبقة العليا من المجلس الشيعي، وقبل أشهر قليلة من غيبته الأليمة في ليبيا، قال الإمام، ما رأيك يا “شيخ نزار”؟ لبنان أم إيران؟ وسبق هذا السؤال ما كان أخبرنا به نزار عن علاقة الإمام الحميمة بقادة الثورة الإسلامية في إيران من قائدها الإمام الخميني إلى الشهيد بهشتي والشيخ رفسنجاني وغيرهم، فقد كان صنوهم في الثورة ضدّ الشاه وهو الذي يحمل الجنسية الإيرانية قبل الجنسية اللبنانية، كما يحمل هم شعبي البلدين معا. طبعاً كان ردّ  نزار على الامام: نريدك معنا في لبنان…ولكن الامام ظلّ في تلك الليلة هائما سارحا في تفكيره.

وقبل أن تأفل الذاكرة فإنه لا بد من ذكر قصتين تدلان عن عفة وانسانية الإمام الصدر أرويهما كما ذكرهما أمامي الشاعر نزار الحرّ بكل أمانة.

 

قصة الفنانة المصرية

القصة الأولى هي قصة طريفة ومفادها أن الشاعر نزار الحرّ كان في إحدى الجولات الفنية في مصر عندما تعرّف على إحدى السيدات من حسان مصر وتعمل في مجال الأزياء الخاصة بالفنانين والفنانات، وكانت خارقة الجمال وكثيرة الدلال وذات جاذبية أخاذة، قالت لنزار: قالوا لي أنك تعمل مع السيد موسى الصدر، في لبنان، فأجابها: نعم أنا أعمل في المجلس الإسلامي الشيعي الذي يرأسه الإمام، فقالت: عندما أذهب إلى بيروت أود أن تصطحبني لأتعرف عليه من أجل أمر خاص بي، فوافقها “الشيخ نزار” وهذا ما كان.

وبعد أشهر قدمت الحسناء المصرية إلى لبنان واتصلت بشاعرنا الذي اصطحبها إلى مبنى المجلس في الحازمية.

 

وتابع نزار: دخلت الحسناء المصرية إلى الموعد مع الإمام واستمر اللقاء أكثر من ساعة وربما ساعتين وخرجت، بعد أن خرجت استدعى الإمام شاعرنا وقال له، لا تدعها تدخل عليّ مرة ثانية، فهي لم ترد شيئاً مني، فقد جلست على الكرسي أمامي وأخذت تراقبني وأنا أعمل وأجري اتصالاتي، ولم تنبس ببنت شفة.

يقول شاعرنا أنه عندما طالب بعدها السيدة المصرية بتفسير لما حدث قالت: أنا كنت فقط أرغب بلقاء السيد موسى لأنني مسحورة بشخصه عن بعد من الاعلام، قامته وجمال محياه وهيبته ووقاره فحققت أمنيتي بأن رأيته عن قرب…هذا كل شيء!

 

قصة فتاة الاوزاعي 

عفّة الإمام الصدر وأخلاقه برزت ايضا من خلال القصة الحزينة الأخيرة التي رواها لنا شاعرنا الراحل، قائلا:

في يوم دخل الامام الصدر وبصحبته صبية جميلة، لم تكن محجبة كما هو حال أكثر الفتيات في عصر ما قبل الحرب الاهلية اللبنانية، وقال لي: “شيخ نزار، باختصار عليك ان تنفذ كل ما تطلبه منك هذه الفتاة”.

يقول شاعرنا انه تمكن من مساعدتها بتوظيف وتأمين عمل لوالدها وأخويها، وان نزار الذي لم يكن متزوجا حينها، اعجب بهذه الفتاة الجميلة الرقيقة والحلوة المعشر، ثم بدأ يشعر انه يحبها عازما ان يفاتحها بمشاعره في اقرب فرصة، وكان احيانا يقوم بمرافقتها الى منزل عائلتها بمنطقة الاوزاعي في بيروت.

إقرأ أيضاً: عن إمام المحرومين: حزن الصورة الأخيرة.. وصمت سماسرة التغييب

غير ان الفتاة المدللة التي كانت تأتي ساعة تشاء الى مبنى المجلس الشيعي وتقابل الامام عندما تريد، انقطع مجيئها الى بيت الطائفة، ومضت اسابيع لم ير شاعرنا حبيبته، ومنعه خجله من المبادرة، فبقي مترددا ولم يذهب للسؤال عنها في منزلها بالاوزاعي، منتظرا حضورها الى مكتبه كما كانت عادتها، حتى كان يوم فاجأ الامام فيه نزار بقوله “ألم تلاحظ ان “فلانة” انقطع مجيئها الينا؟ وعندما ردّ شاعرنا بالإيجاب، جاءه الخبر الامام الذي وقع عليه كالصاعقة: انها مريضة بالسرطان ولن تعيش طويلا، لذلك كنت اسعى لتحقيق ما تريده كي تشعر بالسعادة وتطمئن على عائلتها قبل رحيلها!

“بعد أقل من ساعة” يقول نزار، “كنت في الاوزاعي هائما أريد الوصول بأسرع وقت ممكن الى منزلها الذي بدأت اسمع كلما اقتربت منه صوت تسجيل آيات القرآن الكريم تنذرني بالنبأ الأسوأ، حتى اذا ما وصلت وتأكدت من المصاب الجلل، وجدتني اعانق اباها وأبكي بكاء مرّا لا يعوض فداحة الخسارة”.

اغرورقت عينا شاعرنا  الكبير نزار الحر بالدموع عندما وصل الى خاتمة قصته، وهو الذي كانت لا تليق به الا البشاشة والضحكات، اما نحن المستمعين الذين تأثرنا بنهاية هذه القصة الحزينة، فقد أجلنا ذرف الدموع لموعد لاحق بعد شهرين فقط في اخر اسبوع من العام 2011، ذرفناها ونحن نودّع “الشيخ نزار” ونودِعُه جدث الرحمة في بلدته جباع.

رحم الله شاعر الحب الطيّب نزار الحر، فقد كشف لنا عن صفة لم نكن نعرفها عند الإمام موسى الصدر وهي… “القداسة”.

 

إقرأ أيضاً:لماذا لم يهاجمنا أحدا زمن موسى الصدر وحسن خالد وعبدالله العلايلي؟

السابق
ريفي: على الدولة بذل الجهد للكشف عن مصير الإمام
التالي
حادث مروع قرب المدينة الرياضية: 3 قتلى و7 جرحى نتيجة تصادم بين 6 مركبات