الحب في زمن الإنترنت

قرأتُ ملفاً مطولاً في صحيفة لوموند الفرنسية عن الحب في عدد من البلدان المختارة. ليس شاملاً، ولا متكاملاً؛ إذ غرف كل كاتبٍ مما أتيح له من مشاهدة، أو ما اعتبره هو نافراً. ليس الملف إذن دراسة معمقة، أو "منهجية"؛ لكنه يفيد في استخلاص بعض سمات الغرام في مجتمعاتٍ مختلفة، ويخلق فضولاً لمعرفة المزيد.

ألمانيا أولاً، حيث الرجال ممْحيون، باهتون، منْكمشون، لا ينظرون إلى المرأة بعين طبيعية تلقائية، إنما بوجَل وتحفّظ شديديْن. لا يتحرّشون، لا يضايقون، لا يبادرون. والجنس عندهم مجرّد آليةٍ جسديةٍ، يتخلص الجسم بفضلها من شحنته الشهوانية. السبب؟ أن النسوية الألمانية كانت الأكثر جذريةً من بين كل النسويات الأوروبيات الأخريات، خصوصاً الفرنسية، وكانت نتيجتها أن الرجال “أعيدوا إلى مكانهم الصحيح”، أي انطووا على أنفسهم، فخلوا من تلك الهجومية الغرامية التي عهدوها قبل الثورة النسوية.

الولايات المتحدة ثانياً، حيث ولدت عادات وتقاليد جديدة، بين النساء والرجال، عنوانها “المواعدة” (dating) في مطعم أو مقهى. وأصبح للأخيرة، أي المواعدة، طقوس ومدرِّبون، ووصفات محدّدة. ماذا يلبسون في أثناء المواعَدة؟ عما يتكلمون؟ هل يدفع الرجل الحساب، أم يتقاسمه مع الموعودة؟ ماذا يحبّون؟ كم من الوقت في المطعم؟ وكم من الوقت في المقهى؟ ومتى يعلنون “قرارهم” بالرفض أو بالقبول الذي قد ينتهي بالزواج؟ لقاء يشبّهه المعلّقون بمقابلة من أجل وظيفة، حيث يعرض المرشحون، سيرتهم الذاتية المهنية (c.v). إذ لم يعد ممكناً الآن، وخصوصا بعد الهستيريا التي ضربت الجنسين، إثر فضيحة التحرّش الجنسي بطولة هارفي وينستين وحملة “مي تو” (me too) التي تحولت إلى ما يشبه محاكم التفتيش الدينية، بقذف بها الرجال عند أول نظرة، أو ابتسامة… المواعدة على شكلها الحالي ولدت مع الثورة الصناعية وخروج الأميركيات إلى المجال العام، واكتسابهن إستقلالية عن الكنيسة والأهل، وغوصهن في الغابة الأميركية الشرسة، بكل ما تنطوي عليه من مغامرةٍ، ومن تجديدٍ لأشكال العلاقة بين الجنسين.

إقرأ ايضا: دلال البزري: شغف الجنوبيات بدّده الجوّ الجديد

إيران، ثالثاً، حيث لا اختلاط بين الجنسين، حيث لا بارات، ولا نوادي ليلية. الوسيلة هي “العالم الافتراضي صار هو المجال المهيمن للتلاقي أو التصادم بين الجنسين” السيارة، وعند نهاية النهار، يجلسون خلف المقود، البنات بكامل زينتهن، بالحجاب وبتبرجٍ كثير، والشباب بسيارة “جذّابة”، وعندما تقع العين على ما يعجبها، يحصل تبادلٌ لأرقام الهواتف.. لا “فيسبوك” ولا “تويتر” في إيران. يبقى “إنستغرام”، وسيلة مجانية وغير مراقبة، ومتداولة لعرض المفاتن، أو القدرات حسب الجنس المعني. والغاية ليست الزواج طبعاً؛ فالأخير ما زال يتم بالطرق التقليدية، إنما البحث عن حظٍّ مع الجنس الآخر، يسلّي ويفرغ الطاقات، ليس معروفاً كيف، فالعلاقات الجنسية خارج الزواج عقوبتها مئة جلدة. لكن ثمّة تفريغا لطاقات الرجال في نوعين من الزيجات التي لا يعرفها الغرب: الزواج المؤقت، أو “المتعة”، الذي يمكن أن يدوم من بضع ساعات إلى بضع سنوات، معطوفاً على تعدّد الزوجات، من دون تعدّد الأزواج.

روسيا، ثالثاً، يجد الملف في مجموعاتٍ تسمي نفسها “متعدِّدي الغراميات”، توجهاً غراميا جديداً للشباب الروسي. و”تعدّد الغراميات” ليس زنا، ولا “تبادل أزواج” ولا خيانات. إنه نوعٌ من العلاقات الغرامية الحرّة، ينخرط فيها الرجال والنساء على حد سواء، وبشفافية تامة، من دون مداهنة وخداع. وهي علاقاتٌ غير أحادية، فيها أطراف كثيرة، ولا أفضلية لأي عشيق، أو عشيقة.. و”متعدّدو الغراميات” يعون تماماً أن نمطهم الغرامي تمرّد على النظام الصارم الذي ساد في الاتحاد السوفييتي السالف، حيث كانت مظاهر الحب مقموعة؛ وتمرّد أيضا على القيم البوتينية الرائجة اليوم التي تستمد من الكنيسة الأرثوذكسية مضمونها المحافظ. مع أن البلشفية ألكسندرا كولونتاي، وهي إحدى قيادات ثورة 1917، كانت أول من نادى بالعلاقات الحرّة، المفتوحة على كل الاحتمالات، وبعدم امتلاك الرجل جسد المرأة.. ولكن هذه الدعوة لم تدُم. قطعها ستالين، واستعاد النظام الصارم. الفرق بين دعوات ألكسندرا كولونتاي وممارسات “متعدّدي الغراميات؟” يجيب أحدهم: “حركتنا عفوية، انطلقت من تحت، أما في ظل سلطة كولونتاي، فكان التحرّر يأتي بأمر من فوق”.

اليابان رابعاً، حيث لم تعُد الشابّة تحلم بغير عريسٍ يريحها من العمل في الخارج. لم يكن الحلم بالعودة إلى البيت يراود النساء اليابانيات في الثمانينيات من القرن الماضي. وقتها، شهد الازدهار الاقتصادي ولادة “المرأة صاحبة مهنة ممتازة” (career woman)، التي خرجت بحرب ضروس على الدور التقليدي، زوجة مطيعة وأم متفانية. صارت هذه الأسطورة من الماضي، والاضطراب، بل أوجد التراجع الاقتصادي الياباني مناخ البحث عن الرجل الذي سيؤمن العيش، في مقابل الطاعة والتفاني. واللقاءات مرتَّبة عبر المواقع، لها “كودها” الخاص، ما يُقال في أثنائها وما لا يقال، والمطلوب من “المرشّحة” تضخيم الأنا عند الرجل، لكي يلين، أو يُعجب، فيحقق الموعد هدفه.

عن أفريقيا الجنوبية والمغرب والجزائر وتونس، لم يضف الملف جديداً على ما هو متداول. العنف ضد النساء، الموروث عن مرحلة التمييز العنصري.. قتل النساء، وثورتهن على الرجال. تعدّد الزوجات وزواج القاصرات في المغرب، والأمية الجنسية بين الشباب الجزائري. والحرية التي تنالها المرأة التونسية بعد الطلاق.. كان يمكن تغطية ظواهر أخرى، غير بائنة. ولكن ماذا تفعل بالعجلة الصحافية…؟

ماذا يمكن الاستخلاص من هذا الملف؟ على اختلاف الأوضاع بين بلد وآخر، ثمّة مشترك واحد، هو العالم الرقمي. من الولايات المتحدة وحتى اليابان، مروراً بالمغرب وروسيا.. الجميع موصول بخط إلكتروني. من مواقع التعارف المتنوعة الأهداف، بين جنس خالص وزواج إلى فيسبوك وتويتر وإنستغرام، وغرند، وتندر، وميتك، وبيمبل، أو أيٍّ من التطبيقات المعروفة  “ثمّة مشترك واحد، هو العالم الرقمي. من الولايات المتحدة وحتى اليابان، مروراً بالمغرب وروسيا” وغير المعروفة، أو موقع من المواقع الأخرى، الموجودة بذاتها، أو المخترعة من المستخدمين.

ويخدم هذا العالم الرقمي في كل الاتجاهات: في الجمع بين الراغبين بالتواعد، في الشكوى من فشلٍ أو إحباط، في حل مشكلةٍ طرأت، في تلبية الحاجات الجنسية الملّحة، أو في الزواج الآمن، في التصدّي للظلم اللاحق بالنساء، والآخر الجديد، الذي بدأ يُصيب الرجال؛ في الحملة ضد عنف الرجال، أو ضد مراوغة النساء. أي أن العالم الافتراضي صار هو المجال المهيمن للتلاقي أو التصادم بين الجنسين. كانت الكنيسة، أو الجيرة، أو العائلة الموسّعة، أو حتى الأحزاب السياسية، هي المسرح، هي الإطار.. أطاحها كلها العالم الافتراضي، وصار هو صلة الوصل بين الجنسين، أكانت إيجابية تلك الصلة أو سلبية. هل يعني ذلك أن لا غرام ولا مغازلة، وبل أحياناً لا زواج، للذين لم يوصلوا أنفسهم بالخط الإلكتروني، أو لم يفتحوا حسابا خاصاً في أحد مواقع التواصل؟ خارجون عن سوق الغرام، مثل الخارجين عن القانون؟

إقرأ ايضا: دلال البزري تفْتَحُ «دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية»…

لكن وحدة كهذه لا تُتَرجم بوحدة المفاهيم أو طرق العيش أو الخيارات الغرامية. من الملفّ، يبدو بالعكس، كل بلد استعاد واقعه وتاريخه القريب، أو أحياناً البعيد، واندمج بسياقه المباشر، ليصيغ تصوّره عن الغرام، وطلبه على الجنس الآخر. كما تبيّن لنا من اختلاف الوقائع بحسب الدول. وهذه مفارقةٌ لا بد أن تنتج شيئاً جديداً في المدى المتوسط: أن تكون وسائط التعبير موحدة، افتراضية، وأن تكون الخصائص، أو الخصوصيات هي الطاغية. تماماً مثلما حصل للهويات الضيقة التي ضربت كل التوقعات المتفائلة بالعولمة، فما أن شدّت هذه الأخيرة رحالها، فوحدت البشرية في أشكال تعبيرها، حتى استيقظت هذه الهويات، بل أوجد بعضها حركاتٍ وكيانات انفصالية. مثلما هو حاصل الآن مع الغرام: عالم واحد في طريقة التواصل، وعوالم متباينة في مضامين هذا التواصل، تستمد سماتها من هويتها الخاصة، الوطنية منها، أو ربما المادون وطنية. هل يتغيّر المضمون مع الوقت؟ نظرا إلى ارتدائه شكلاً إلكترونياً، جديداً، في طُرُق التعبير عنه؟ سؤال اهتم به كثيراً نقاد الأدب خصوصاً، منذ ثورة المطبعة الورقية التي صارت الآن من العالم التليد.

السابق
تضارب المعلومات حول اشتباكات بعلبك
التالي
تناقض قضائيّ حيال عدم جواز الجمع بين وظيفتين رسميتين بين بلديتي ميفدون والزلوطيّة