الأرْيَنة والأَيْرنَة في حديث أيْك الرَضْونَة

يظنّ البعض من النّاس أنّه يُمكن للمرء أن ينأى بنفسه عن العصر ومنجزاته، وأن يختطّ لنفسه سبيلاً غير سُبل الناس الآخذة منحى شاملاً في الارتقاء أو الهبوط. لكنّ هذا البعض يُخطئ مرتين: مرةً في اعتقاده، وأخرى في مسيرته الحياتية الواقعيّة.

وفي عصر الاتصال الاجتماعي اليوم، لن يستطيع المثقف أن ينأى بنفسه عن الانخراط في المعمعة، حيث الخطاب ملكٌ للمواطن العادي من عاقلٍ أو منفصمٍ، وكذا للمثقف والمفكّر، وإنْ على تفاوت في الدرجة والخصوصيّة. فالواقع يُثبت أنّ الإنسان ابن مجتمعه، وكائنٌ اتّصالي من دون مكابرة، إلا إذا حكم على نفسه بالنفي أو الموت، وإلا اتّبع سنّة الحياة ونواميس الطبيعة والاجتماع، وخضع لما تخضع له العامة من الناس.

إقرا ايضا: الشعارات الانتخابية الإسلامية: تأبيد للطاعة وتنكّر للحقوق الإنسانية

ثمة مثال يُثبت الواقعة، ويؤكّد أنّ المثقفين أنفسهم أُرغموا على الانسجام مع العصر ومستويات الاتصال فيه، حيث الخطاب صنيعة الجمهور، ومنه الأميّون، وفق شروط رقيقة المعايير، ضعيفة الضبط، عموميّة المستوى. المثال هو الدكتور رضوان السيد في هذا المجال، الذي يتقدّم دون خوفٍ، ولا يكتم “حبّه” دولة وشعباً محدّدين، يقفان في مواجهة الدولة والمحور السياسي الأثير لديه؛ ووسيلته في إظهار “حبّه” كلمات ذات قدرة دلاليّة وإيحائيّة، حمّالة أوجه، خصوصاً حين يستخدمها في سياق المدافعة عن خطّه السياسي والمذهبيّ، فلجأ إلى كلمة “إيران” الفارسيّة، وأدخلها سياقاً عربياً، وعمل على الاشتقاق منها، ليحقق إيحاءات جنسية بهدف الإساءة إلى “أعدائه”، فما الذي يجعل مثقفاً يتبنى خطاباً مماثلاً؟

الكاتب المختصّ في الدراسات الإسلامية وجدّ أنّ منافسيه الإسلاميين من عربٍ، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، يكتسحون أرضاً ذات ثقل اجتماعي وتاريخي وسياسيّ، وينعقد لواء السيطرة لقوى المجتمع المتكئة على دعم إيراني، في مقابل محور خليجيّ يتبنى خطاباً عربياً إسلامياً، معتمداً على شرعيّة لغوية وتاريخية وجغرافية.

إذن، الإشكالية تقوم على التشابه اللفظي بين كلمة إيران الفارسيّة التي تعني بلاد الآريين، وبين تلك الكلمة العربية الثلاثيّة الخاصّة بالعضو الذكري. فالكلمة الفارسيّة لا علاقة فعليّة بينها وبين الكلمة العربية إلا على مستوى اللفظ، ولا يشتركان في الجذر. وتعني كلمة “إيران”، وفق الكاتب الإيراني علي نوري زادة، “مملكة الآريين (أي الاقوام المسماة بـ«الهندو أوروبية») التي هاجرت من شمال الهند وغربها قبل حوالى ستة آلاف سنة، واستقرت ثلاث قبائل منها في «بارت» و«ماد» و«بارس» في شمال ووسط وغرب بلد يُدعى اليوم إيران، فيما توجّهت بقية القبائل إلى ما هو اليوم ألمانيا وكرواتيا وجزء من أوروبا الغربية”، مشيراً إلى أنّ الكلمة “ظهرت في أحد الألواح الحجرية في عهد الإمبراطور الأخميني «داريوش الكبير» في برسبوليس، حيث يذكر داريوش: «أنا ملك بارس وماد (كردستان) وبارت (خراسان وآسيا الوسطى) وملك بابل (العراق) ومصر، وأنا ملك ملوك إيران”.

أمّا في اللغة العربية، فإنّ الكلمة الجنسيّة تذهب إلى معنى الحرارة، ومنها “الأوار”، فما الرابط بين الكلمتين مفهوماً ولفظاً؟

من الجانب المفهومي لا علاقة بين الكلمتين، ولا علاقة سوى في الجانب اللفظي الذي يستغلّه الأستاذ الجامعي، ثم يعمد إلى التفعيلات وما يُصاقبها من حركات تجعل التشابه شديداً، بوساطة الفتح على أول الكلمة، فلا يقول المقاومة المدعومة إيرانياً أو الحليفة لإيران، وهو التعبير الدقيق، بل يقول “المقاومة المتأيرنة” ليستفيد من المحمول الدلالي والطاقة الإيحائية للكلمة وتفعيلاتها، كـ”الأيرنة” والـ “أيارنة” والـ”متأيرنون”… وقد استفاد ـ هنا ـ أولاً من الوقع اللفظي على السمع، ثم جعل القوى المتحالفة مع إيران مندمجة عضوياً في السياق الفارسي الإيراني كما العرب المعرّبة أو المستعربة من غير العاربة؛ فثمة إيرانيون ومتأيرنون، إلا أن “المتفعلّون” ليسوا على سويّة واحدة والأُوَل، بل هم من تليق بهم الشتيمة….

فلماذا اختار هذه الصياغة اللغوية والتفعيلات، ثمّ الإيحاءات وظلال المعاني والمعاني الحافّة باللفظ، بدل اعتماد تعابير تُناسب مركزه الأكاديمي وتاريخه العلمي، بل اختار الهرولة في ميدان الخطاب الجماهيري الشعبويّ؟

يتشارك الأستاذ اللبناني المعارض للحلف الإيراني السوري في المنطقة الفكرة مع مجموعة من الفسابكة والتويتريين، كما يظهر ذلك في  خطاب موجّه إلى الإيرانيين عبر “فيس بوك”، حيث جاء: “نداء إلى (الأيارنة) يعني بالعامية الايرانيين الحج بالسعودية بمكة بالتحديد وإج كنت بحالة اضطرارية وما عمتحسن تحج بمكة الي هيي بالسعودية فممكن بالقدس بالمسجد الاقصى بالتحديد واج كنت يعني متضايق وما عمتحسن تروح على القدس فممكن بالمسجد النبوي الشريف وكل هلحكي مو من عندي هاد الكلام من رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا لثلاث المسجد الحرام والمسجد الاقصى ومسجدي هذا) صدق رسول الله …. فلعبو غيرها عنا مافي حج ابدا يا أيارنة (يعني ايرانيين)”

سيقول قائل إن الخطاب رصين ويقوم على تفعيلة لغوية سليمة تختصر الزيادة في المبنى، لكن المبنى غيّر المعنى كذلك، وأطاح بالخطاب، فما هو مآل هذه الصيغ ذات الإيحاء الجنسي؟

من المعلوم والواضح أنّ بالإمكان لدى العرب جمع كلمة إيراني جمعاً سالماً لو أرادوا، فيما اختاروا جمع التكسير وفضّلوه بهدف تقليل الاحترام للمقصود بالخطاب، وللاستفادة الشخصية من التفعيلة وإيحاءاتها المحتملة.

ثمة تفسيرات عديدة للجوء الكاتب إلى لغة إيحائية جنسيّاً، تبدأ من نقطة المراودة لتصل إلى مرحلة الاغتصاب والقهر!

تكتب كريستين أبي عازار في “رصيف 22” أنّ ما “يُعرف بالـdirty talk  أو الكلام البذيء، يُعتبر “ممارسة باستخدام كلمات تصف صوراً من شأنها زيادة الإثارة الجنسية قبل ممارسة العلاقة الجنسية وخلالها وبعدها. ويُعتبر الكلام البذيء جزءاً من المداعبة، وقد تتخلله صفات جنسية حية ومثيرة، ونكات جنسية، وأوامر جنسية، وكلمات “وقحة”.

فهل هذا الرأي جدير بالتبنّي؟

لا يُظهر السياق النقديّ والانفعالي في مقابل الجبهة الإيرانية أن الكاتب العروبي ممن يُريدون إثارة شريك بل عدو، والإثارة ليست للتحبّب لأنها لا تعوّل على استمالة الخصم بل على رفضه ونفيه…

فهل التعبير يهدف إذن إلى فعل السيطرة والقمع والاستعباد كما فعل الغزاة عبر التاريخ، وكما حصل حديثاً في حرب البلقان وحروب داعش، حيث كان المقاتلون يغتصبون النساء تعبيراً عن إخضاعهن وإخضاع ذكورهنّ الذين لم يستطيعوا حمايتهن أمام اندفاع المهاجمين؟

ليس الأمر كذلك لدى الأستاذ السيّد، الذي يُعلن صراحة عجز محوره عن مواجهة المحور الصلد المقابل…

فهل يكون ذهن المثقف العربيّ الكاتب قد انصرف إلى الظّن بأنّ فريقاً ما قد فعل بالإيرانيين فعلاً شائناً فأضعف عزيمتهم وقواهم واندفاعات محورهم؟

أين ذلك؟!

لا يبدو أنّ أياً من التحليلات الثلاثة يمكن تطبيقها على واقع الساحة الإقليمية، فيما يبقى لنا احتمال رابع يقوم على التفسير النفسي الذي قال به علماء النفس، وهو أنّ السباب الذي قد يطلقه شخص لدى إيذائه يُعدّ سياسة سليمة، إذ إنّ السبّ والقذف يخفّف الإحساس بالألم.

وتوصلت دراسة أوردت نتائجها الـBBC، وأجراها باحثون في جامعة كيل البريطانية على مجموعة من المتطوعين، إلى أنّ السبّ والشتم خفّف الإحساس بالألم لديهم بنسبة 50 في المئة”.

وفي تفسير العلاقة بين الألم والسباب وتراجع الإحساس بالألم، “اقترح الباحثون أنّ السباب يزيد معدّل ضربات القلب والنزعة العدوانية، وهي الأمور التي تحدث في مواجهة التهديد أو الخوف من أجل التعامل مع هذه المواقف”، لكنّها “لغة عاطفية تفقد معناها بالتكرار”.

وتُشير الاختصاصيّة سناء سيف في حديثها إلى جريدة الحياة إلى أنّه “يمكن الربط بين تجذّر ثقافة الشتم والسبّ عند الشخص وحالته الاجتماعية وتجربته الحياتية والمشكلات التي يتعرّض لها، ونجاحاته وفشله، إضافة إلى علاقاته الاجتماعية ومدى تأثّره بالعادات والقيم والأخلاق والدين أيضاً”، ما يؤدّي إلى حالة من “عدم التوافق النفسي والتعصّب والعداوة والعنف”.

إقرأ ايضا: رضوان السيد: لتحييد الدولة عن الدين وتحقيق نهوض فكري في الإسلام

وتفرّق سيف بين أنواع الشتم، “فهناك السبّ العادي الذي يعبّر عن احتقان داخلي ومحاولة لنفي الآخر وتصغيره. لكن هناك أيضاً السبّ الأيديولوجي الذي يرتكز على أفكار مسبقة معيّنة نمتلكها عن الآخر، مثل شتمه بسبب لونه أو انتمائه الديني أو حتّى شتم المنطقة التي ينتمي إليها، …وثمة الشتم الطبقي الذي يزيد مع اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء”.

وعليه، نجدّ أنّ الشعبويّة والشوفينية لم تمت في العصر العباسي وفي العصور التي تلت، بل ما تزال حيّة حتى يومنا، وكذلك العنصرية العربية والعنجهية في مواجهة مَن وصفوهم يوماً بالعجم…وفي ذلك كلام.

 

السابق
في الصين: طرقات ممهدة بالطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء النظيفة
التالي
بالفيديو: رئيس بلدية عكارية يطارد 3 شبان ويقوم بصدمهم والاعتداء عليهم