مقاربة سيادية للتعاطي اللبناني بالموضوع الفلسطيني

على خلفية الرفض العربي للقرار 181 للجمعية العمومية للأمم المتحدة الصادر بتاريخ 29 تشرين الثاني 1947 الذي قسّم فلسطين، وعند انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين بتاريخ 14 أيار 1948، أعلنت الحركة الصهيونية إنشاء دولة إسرائيل،

فاندلعت الحرب العربية الإسرائيلية التي استمرّت حتى 10 آذار 1949، وكان من تداعياتها دفع عدد كبير من الفلسطينيين إلى اللجوء في البلدان المجاورة، وكان نصيب لبنان حوالى 120000 لاجئاً يشكلون 80 % من مجموع اللاجئين الفلسطسنيين في لبنان.

إقرأ أيضا: «صفقة القرن»: القضية الفلسطينية

عند انتهاء الحرب توجهت دول الطوق إلى عقد اتفاقات هدنة منفصلة مع إسرائيل، استجابة منها ومن إسرائيل إلى قرار مجلس الأمن الصادر في 16 تشرين الثاني 1948 الذي كان يهدف إلى «تسهيل الإنتقال من المهادنة الحالية إلى سلم دائم في فلسطين».

لم تشهد الحدود اللبنانية – الإسرائيلية توترات عسكرية ذات شأن حتى عام 1965، باستثناء بعض مشاكل الحدود الصغيرة، واشتباك عرضي لا دلالة له بين الجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي في عام 1960، أسر اللبنانيون على أثره أربعة جنود إسرائيليين جرى تسليمهم في ما بعد.

بدأ اتفاق الهدنة يهتز فعليا في تشرين الأول 1965 عندما أغارت الطائرات الاسرائيلية على منابع الحاصباني والوزاني وعطلت المشروع الذي كان مجلس جامعة الدول العربية قد أقره في العام 1964. ويقضي بتحويل مجاري الأنهر التي تصب في بحيرة طبريا، وهي الحاصباني والوزاني اللبنانيان وبانياس السوري.

في تلك الفترة، كانت حرارة التنافس ترتفع بين مصر الناصرية وسوريا والعراق البعثيين على خلفية صراع مكتوم على قيادة العالم العربي، بالإضافة إلى إفتتاح ياسر عرفات على رأس سنة 1965، عصر الكفاح المسلح الفلسطيني ودخوله شريكا مضاربا في حلبة الصراع هذه، مما زخّم دينامية المواجهة العربية لإسرائيل التي أوصلت بدورها إلى الهزيمة النكراء عام 1967 وإلى تحويل لبنان بحكم الأمر الواقع إلى لاعب في هذه الدينامية، وإنْ لم يشترك في حرب 1967، فكان أن أدخل في أزمته الكيانية المتعددة الأوجه والتي تستمر فصولاحيث بلغت في يومنا هذا أعلى درجات الخطورة.

تحوّل لبنان رسميا إلى دولة مواجهة عندما نقد اتفاق الهدنة بتوقيع اتفاق القاهرة بتاريخ 3 تشرين الثاني 1969. وانتقلت منظّمة التحرير الفلسطينية قيادة ومقاتلين وبنى تحتية إلى لبنان على إثر أيلول الأسود في الأردن بحكم أنّ لبنان هو الحلقة الأضعف نظرا لتركيبته التعدّدية وحساسية التوازنات في ما بين مكوّناته، وكأنّه تقاطعت الدول العربية على التلطي وراء دعم المقاومة الفلسطينية في لبنان للتستير على إخفاقها في تحصيل حقوق الشعب الفلسطيني.

فجّر هذا للوضع في 1975 التناقضات الداخلية اللبنانية وأنتج حرباً ذات ثلاثة أوجه متداخلة، متفاعلة: حرب أهلية، حرب على لبنان وحرب الآخرين على أرضه. فكان غزو إسرائيل للبنان في 1982 الذي أخرج منظمة التحربر منه.
لاحقا، سوف تقوم منظّمة التحرير الفلسطينية بنقد ذاتي لتجربتها في لبنان تعتبر فيه أنّها أخطأت بتعاملها مع اللبنانيين، ولا سيما بأنها حملت لبنان أكثر من طاقته، ما أدى إلى زعزعة تركيبته وأسس بنيانه. حسنا فعلت!

بالتوازي، أعلنت الجمهورية الإسلامية في إيران في شباط 1979 وبدأ العمل على تأسيس حزب الله في لبنان بمسمات مختلفة، لكنه أبصر النور رسميا في 1985. وهو اليوم الفصيل الرئيسي في فيلق القدس من ضمن الحرس الثوري الإيراني المسؤول عن تصدير الثورة. اشترك في مقاومة الإحتلال الإسرائيلي في 1982 وتمكن فيما بعد، بمساعدة سوريا – الأسد حليفة إيران – الإسلامية الإستراتيجية منذ نشأتها في 1979، من الإ ستحصال على حصرية المقاومة، فأضحت المقاومة رديف لحزب الله وصفتها أنها مقاومة إسلامية في لبنان، وهدفها ملتبس.

في الظاهر، هو تحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي، لكن حزب الله طور هذا الهدف في مرحلة لاحقة ليصبح أيضا حماية لبنان من العدو الصهيوني التوسّعي، وذلك لإعطاء صفة الدوام لضرورة مقاومته، بمعنى أن طالما إسرائيل موجودة ثمة حاجة للمقاومة لتحمي لبنان من أطماعها بالأرض والمياه (استنادا إلى ميتولوجيا إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات).
أما هدفه الحقيقي غير المعلن ولكن المعلوم، فهو تحرير كامل التراب الفلسطيني بتدمير دولة إسرائيل، تعبيرا عن إلتزامه تحقيق الهدف الإستراتيجي المرحلي المعلن لإيران – الإسلامية حيث هو جزء لا يتجزء منها.

وهكذا، أصبح لبنان رأس رمح الكفاح المسلح لتحرير فلسطين والنموذج الناجح له: تحرير الجنوب في عام 2000 (بإستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبلدة الغجر)، والإنتصار في حرب 2006، وإن أدى الأمر إلى خسارة وتدمير لبنان.

ولكن الآتي أعظم! فحزب الله هو اليوم رأس رمح إيران – الإسلامية في المنطقة. وهو متواجد في طول منطقة نفوذ إيران وعرضها، يصول ويجول فيها، يقود ويكافح. والكل يعلم أن مواجهة التوسع الإيراني في طور تحققها، بغض النظر عن تعرجاتها وما يمكن أن ينتج عنها، وأن حزب الله بات رسميا ممسكا بالدولة اللبنانية بمؤسساتها الدستورية كما بالدولة العميقة. وهو الأقوى داخلها وخارجها. وهو بذلك، يضع لبنان في حالة خطر داهم ، ليس فقط إقتصاديا إنما أمنياأيضا.

إقرأ ايضا: هل تعود فلسطين قضية العرب الأولى؟

فهل ممكن لبننة حزب الله، كما يحلو للبعض الساذج والبعض الآخر المناور، أن يعتقد؟! بالطبع لا لأنه إذا تلبنن، فقد علة وجوده. في الواقع، ما يحدث هو تماما العكس، أي حزبلة لبنان… فما العمل؟

المطلوب إبراز حالة سياسية وشعبية لبنانية ترفض الخضوع للأمر الواقع الإيراني بوجه لبناني على لبنان، وذلك على قاعدة الإلتزام بالمرجعيات والسياسات التالية:

1) التمسك بالدستور وضروة تنفيذه بحرفيته.

2) تنفيذ إتفاق الطائف دون تشويه وبكافة مندرجاته.

3) عودة لبنان إلى الحاضنة العربية دون التبعية لأي دولة واستعادته لدوره الإيجابي والوحدوي في جامعة الدول العربية خارج صراع المحاور.

4) تمسك لبنان بعضويته في منظمة الأمم المتحدة والعمل على الدفع لتنفيذ جدي للقرارات الدولية، ولا سيما القرارين 1559 و1701.

5) عودة حزب الله إلى لبنان وتسليم سلاحه للجيش اللبناني الذي يتولى إلى جانب باقي الأجهزة الأمنية الدفاع عن لبنان، والتحول إلى العمل السياسي السلمي بمقابل حماية الدولة اللبنانية له، قيادة، أعضاء وبيئة من أي إعتداء عليه، ولا سيما من العدو الإسرائيلي.

6) إلتزام اللبنانيين بمبدأ عدم التدخل عسكريا لصالح أي شعب أو أي جماعة مهما كانت قضيته (ها) محقة لأن هكذا تدخل قد يلحق الضرر بالوئام اللبناني فضلا عن أنه يحمل لبنان وزرا لا يمكنه تحمله.

7) العمل على توافق اللبنانيين على ضرورة تحييد لبنان عن صراعات المنطقة ورفض إدخاله بأي محور عربي أو إقليمي والطلب إلى كافة الدول إحترام رغبته بتحييد نفسه وذلك بعدم توريطه بمسارات نضالية وعسكرية وكفاحية وجهادية، جعلته يدفع حتى الآن الأثمان الباهظة.

8) أما بما يخص الموضوع الفلسطيني، فلا حاجة إلى «الأستذة» على الفلسطينيين واستخدام اللغة الخشبية اللبنانية على تنوعها وتناقضها: حقوق الشعوب والإنسان وحق العودة والقرار 194 ومرجعية القرارين 242 و383، ومشروع الدولتين والمشروع العربي للسلام في قمة بيروت عام 2002 وعقم المسار السلمي وإعتماد إسلوب الكفاح المسلح… إلخ، لأن هذا السلوك يعمق الخلافات بين اللبنانيين ويورط لبنان في لعبة المحاور، كما أن كل طرف لبناني يستخدم الموضوع ذاته (مثلا حق العودة) لمصلحة رؤيته. وميثال على ذلك، الإجماع اللبناني على حق العودة : فالمطابة بهذا الحق لللاجئين الفلسطينيين تشكل للبعض الذريعة المثلى لعقد نزاع دائم مع إسرائيل وبالتالي تبرير وجود المقاومة وتشكل للبعض الآخر، عنوانا» للوقوف بوجه توطين تحول عندهم إلى هوس ميتولوجي. فكيف إذن مقاربة الموضوع بناء» على ما تقدم من نقاط سبع؟

9) القضية الفلسطينية هي شأن القيادة الفلسطينية دون سواها. هي وحدها تحدد أهدافها، علاقاتها، إستراتيجياتها، تحالفاتها وأسلوب بلوغ هذه الأهداف. وعلى لبنان، دعم قرارات القيادة الفلسطينية بالتماهي مع الموقف العربي التي تعبر عنه جامعة الدول العربية ويشترك لبنان بصياغته، ولكن إلى الحدود التي يرسمها مبدأ تحييد لبنان، كما إلى حدود عدم توريطه في مسارات الأمر الواقع التي تزعزع أمنه الداخلي والخارجي.

10) المشكلة تكمن في عدم قدرة لبنان في ظل الموازين الراهنة، على وضع تصور لحل موضوع اللاجئين الفلسطينيين لكي لا يفرض عليه من الخارج. لماذا؟ لأن الدولة اللبنانية في غيبوبة والسلطة الفعلية هي بيد حزب الله.

11) في مطلق الأحول، يبدو لي أن حل قضية اللاجئين الفلسطينيين الممكن تحقيقه عندما تنضج الظروف، هو بتوزيع من يرغب منهم على عدد من الدول العربية والأجنبية، وبالتوازي دعم السلطة الفلسطينية لإعطاء اللاجئين الهوية الفلسطينية. فيغدو وضع من بقي منهم في لبنان بمثابة رعايا أجانب لهم وضع خاص مقرون بحقوق إنسانية وإجتماعية. أما حقوقهم السياسية، فيمارسونها في إطار السلطة الفلسطينية ولاحقا في إطار الدولة الفلسطينية المرتقبة، فالمطلوب إذن هو أن تستعيد الدولة اللبنانية نفسها أولا.

السابق
أميركا: إيران بصدد إجراء مناورات بحرية عسكرية كبرى
التالي
الرئيس الذي تخيّل نفسه إله الآلهة