حياة وذكريات العلاّمة السيد محمد حسن الأمين

الولادة والهجرة العلميّة
سؤال: هل لكم أن تضعونا بصورة عن حياتكم: ولادتكم، ونشأتكم، وتحصيلكم العلمي، ونشاطكم..؟
ولدتُ في بلدة شقراء ـ جنوب لبنان، في أواخر العام 1946 م (تحديداً في شهر تشرين الثاني) وهاجرتُ في أواسط العام 1960 م إلى النجف الأشرف، وكان عمري آنذاك 14 عاماً.
الأساتذة:
درستُ في حوزة النجف الأشرف على جملة من العلماء، من أميز أساتذتي:
ـ السيّد محمّد تقي الحكيم.
ـ الشيخ محمّد تقي الأيرواني، الذي كان متضلعاً كثيراً بالفقه.
ـ الشيخ عبد المهدي مطر، كان يُلقب بسيبويه العصر، لتضلعه بالنحو واللغة.
ـ الشيخ محمّد تقي الجواهري، درستُ عليه المكاسب.
ـ السيّد محمّد حسين الحكيم، درستُ عليه الرسائل.
الدراسة الأكاديمية:
إلى جانب الدراسة الحوزويّة فقد درستُ في كلية الفقه دراسةً أكاديميةً، على كبار العلماء والأكاديميين، منهم:
ـ الدكتور حاتم الكعبي، في علم الاجتماع.
ـ الدكتور عبد الرّزّاق محي الدين، الذي كان من كبار الأدباء، له مؤلَّف عن الشريف المرتضى، عبارة عن أطروحة دكتوراه في الأزهر، نال درجة الشرف الأولى.
كما أنه كان وزيراً لأكثر من مرّة، ومع ذلك كان يعطي درساً في كلية الفقه، وعمله الأكاديمي واهتمامه بالعلم كان أكثر من الوزارة ..؛ حتى انه كان يقضي يوماً كاملاً إسبوعيّاً في النجف الأشرف.
ـ الدكتور مدني صالح، الأستاذ في الفلسفة الحديثة، والذي توفّي من ستة أشهر تقريباً.
ـ الشيخ محمّد شمشاد، وهو عالم هندي، وكان أستاذاً في الفلسفة الإسلاميّة.
ـ الشيخ محمّد رضا المظفر، وكان عالماً ملهماً ونزيهاً، كما تميّز بالفقه، والمنطق، والأصول.
والشيخ المظفر هو مؤسس كليّة الفقه التي جاء تأسيسها كتحدي كبير عند الشيعة، حيث إنّها خروج عن المألوف، وهي خروج عن نواميس الحوزة العلميّة التقليديّة، لاسيما وأنّ فيها لغة إنكليزية.. والشيخ المظفر هو من كبار رجال النهضة والإصلاح، وقد ثبت، وفرض طروحاته، واعتباره على الحوزة العلميّة ومراجع الدين.
عند الخوئي والصدر:
كما درستُ لمدّة غير طويلة لدى السيّد أبو القاسم الخوئي +، في مرحلة البحث الخارج في أصول الفقه.
وأمّا لدى السيّد محمّد باقر الصدر + فدرستُ عليه لفترة محدودة، لكنني كنتُ على تواصل دائم معه، فكانت زياراتي له متكررة، ونشأت علاقة شخصيّة معه، وهو الذي كان يرغب بالطلاب أصحاب التطلّعات الفكريّة والثقافيّة، خارج النمط الحوزوي التقليدي، علماً أنّ تدريس الشهيد الصدر للفقه والأصول كان تقليديّاً.. ولكن قيمته العلميّة في مجال الفلسفة والفكر..
الاهتمامات الثقافيّة والأدبيّة:
اعتنيتُ بالثقافة العامّة والأدب بوقت مبكر، نشرتُ الشعر في العام 1963 م في مجلّة الكلمة وعبقر في النجف الأشرف، كما نشرتُ في مجلة العرفان في العام 1968 م هذا فضلاً عن مساهماتي في نشر مجلّة النجف مع السيّد هاني فحص، والسيّد عبد الهادي الحكيم، وهذه المجلّة كانت تصدر عن كليّة الفقه، وكانت تنشر لأساتذة الكلية وبعض الطلبة ..، وكنتُ أنا والسيّد هاني فحص نحرر الجزء الأكبر من المجلّة.
وفضلاً عن ذلك فقد نشرتُ أبحاثاً أدبيّة ونقديّة في الصحف العراقيّة.

اقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين: السلطة الإسلامية لا تأخذ شرعيتها من رجال الدين

مع الشيخ المظفر:
منذ هجرتي إلى النجف الأشرف تواصلتُ مع الشيخ محمد رضا المظفر، وبقيتُ على علاقة معه، حيث كان + جار المرحوم والدي في المدرسة العامليّة في النجف.
وعندما أردتُ الدخول إلى كليّة الفقه كان شرط السن يتعارض مع عمري ـ حيث لم يبلغ عمري 18 عاماً بعد ـ ؛ حينها تعهّد الشيخ المظفر الأمر على عاتقه، وخلال دراستي بالكليّة كنتُ عند حُسن ظن الشيخ المظفر بي.
الشيخ الشري في ضيافة الشيخ المظفر في النجف:
أذكر أن الشيخ محمد جواد الشري زار النجف الأشرف في بدايات الستينات ـ ولعلّه قرابة 1963 م ـ آتياً من الولايات المتحدة الأمريكية، وجاء بزيه الديني الأمريكي (حليق الذقن)، وألقى محاضرة في كليّة الفقه، قائلاً لهم: أحببتُ أن آتيكم كما أنا .. وشرح نشاطه الدعوي في أمريكا، الذي يقتضي منه هذا اللباس .. وطبعاً للشيخ محمّد جواد الشريq انجازات جليلة في أمريكا، وحتى لديه مؤلّفات بالإنكليزية.
وبالمناسبة فقد كان الشيخ المظفر والمرحوم والدي والشيخ محمّد جواد الشري (رضوان الله عليهم) أصدقاء ثلاثتهم، وتربطهم علاقة طيبة. ولذا عندما جاء الشيخ الشري إلى النجف سأل عني شخصيّاً، واصطحبني معه..
وقد كان الشيخ الشري ضيفاً عند الشيخ المظفر.. وفي آخر ليلة لوجوده في النجف الأشرف قدّم له مبلغاً من المال وفيراً ـ له قيمة شرائية في ذاك الزمان ـ وقال للشيخ المظفر: إنّ هذا المبلغ لك خاصّة، وليس من الحقوق الشرعيّة ..
وقد كان وضع الشيخ المظفر محدوداً وبسيطاً، ومع ذلك أرسل الشيخ المظفر بطلب السيّد هادي فياض ـ الذي كان مسؤولاً عن الإدارة والمال في الكليّة ـ وسلّم الشيخ المظفر المال للسيّد هادي فياض؛ ليوضع في كليّة الفقه، وبالفعل وضع كامل المبلغ في ميزانية الكليّة.
وهذا يؤكد كرم الشيخ الشري، الذي دفع مبلغاً وفيراً، ونزاهة الشيخ المظفر الذي ترفّع عن المال.
آلية السفر بين لبنان والعراق:
استمريتُ بالدراسة في النجف الأشرف حتى العام 1972 م، حيث عدتُ إلى لبنان، علماً أنني بدأتُ الدراسة في النجف في العام 1960 م، وخلال هذه السنوات ترددتُ إلى لبنان ثلاث مرات فقط، خلال العطل الصيفيّة.
وكان يحصل السفر عبر السيارات، شركة نيرن، وهي سيارات انكليزية (بوسطات)، وكان يستغرق سفرنا من الشام إلى بغداد 15 ساعة، وأحياناً ننزل في محطة في الشام، ننام ليلة ثم ننطلق في اليوم التالي إلى النجف الأشرف.
فمحطات السفر كانت تبدأ من بيروت إلى الشام، ومن الشام إلى بغداد، ومع كل المشقّة التي كنا نتكبّدها في السفر إلا أن حالنا أفضل من الجيل الذي سبقنا بخمس عشرة سنة تقريباً، حيث كانت مشقتهم أكثر.
تطوّر وسائل الراحة:
ولم تقتصر استفادة جيلنا من التطوّر على وسائل النقل فحسب، بل استفدنا من وسائل التبريد، فالعراق بلد حار، شديد الحرارة.
ووسيلة التبريد هذه عبارة عن صندوق حديدي على جوانبه نوع من خشب، مثل أوراق (النشارة)، وفي داخلها مروحة ـ تصلح هذه الوسيلة للأماكن الجافّة دون الأماكن الرطبة ـ فالهواء الجافّ يمر بالقش والماء يمر عليه ويبرّد..
وهذه الوسيلة التي تُعرف ب(أركولر) أهم من المكيّف وأفعل، ومازالت موجودة لحينه، علماً أنّ هذا النوع من التبريد لم يكن متوفّراً لدى الأجيال التي سبقتنا، وكان التبريد مقتصراً على السرداب، الذي هو عبارة عن مكان محفور تحت الأرض.
فالحياة تقدّمت في أيامنا، مع وجود الكهرباء، ففي الستينات لم يكن كهرباء في الجنوب، وفي 1967 م دخلت الكهرباء، فتوفّرت الكهرباء في العراق بشكل كبير وشبه مجاني؛ ما جعل حياة الطالب غير شاقّة.
وكان يترتّب على الطالب جهد في خدمة نفسه ـ من صنع الطعام إلى غسل الثياب.. ـ ولم يكن متوفّراً في المدارس هذه الخدمات، ولم يكن موجود (غسّالة)، والطلاب لم يكونوا يملكون هذا النوع من الغسّالات.
الزواج والتفرّغ لطلب العلم:
طلاب النجف معرفون يتزوجون مبكراً، وأنا تزوّجتُ في سن مبكر جداً، بعد ذهابي إلى النجف بثلاث سنوات، وكان عمري وقتذاك سبع عشرة سنة.
وكان هذا سبباً رئيسياً للقدرة على التفرّغ على الدراسة، فمهم جداً أن تكون هموم البيت كلّها من مسؤولية المرأة، وهذا ما يُعطي الوقت الكامل للتفرّغ وللدرس والمطالعة.
الثقافة العامّة والدرس الحوزوي:
وهنا أود أن أشير إلى أهميّة القراءة والمطالعة في جامعة النجف، لا تقل أهمّية عن مطالعة الدروس الحوزويّة المفروضة، والطلاب يتفاوتون في هذا الأمر كثيراً.
حتى أن هناك عدداً من المحصّلين لدرجة عالية بكتب الحوزة (النحو، البلاغة، المنطق، الأصول..)، ولكنّهم خارج هذه الدروس لا يوجد لديهم أي ثقافة أو رؤية تمكّنهم حتى من تحويل علومهم الأكاديميّة إلى مادّة نافعة في المجال الفكري والثقافي.
التأسيس العلمي في كنف الوالد:
وقد كنتُ حريصاً على إتقان دروس الحوزة، وتميّزي ـ إن صح لي أن أدّعي ذلك ـ هو لأنني كنتُ في لبنان ومنذ سن السابعة ـ وخلال متابعة الدراسة الإبتدائية والمتوسطة ـ ملزماً من قبل الوالدq بمتابعة الدراسات الحوزويّة، وخاصّة النحو، والصرف، وشيء من المنطق، وحفظ عدد كبير من القصائد والأبيات الشعريّة المتفرّقة، لأنّ الوالد فضلاً عن كونه فقيهاً كبيراً، ومجتهداً معروفاً، إلا أنه كان يتميّز بتضلعه باللغة العربية، وفي النحو والأدب العربي.
وكان الوالد يعمل بموجب حديث الرسولw في توجيهه للآباء في تربية أولادهم، في قولهw: «أتركوهم سبعاً، وعلموهم سبعاً، واصحبوهم سبعاً» وقد قُدِرَ لي أن أعيش معه المرحلتين الأولى والثانية، وتوفّي وأنا في الرابعة عشرة، وهي نهاية مرحلة التعليم، فحينها ذهبتُ إلى النجف، ووجدتُ أنني استطعتُ بسرعة أن أتجاوز خصوصاً مسائل النحو والبلاغة وشيئاً من الفقه، التي استفدتُها من المرحوم والدي+، مضافاً لحفظ الكثير من الآيات القرآنيّة، التي تلقيتُها ابتداءً من سن السابعة دون انقطاع حتى ذهابي إلى النجف.
تأثير العلاّمة المظفر باتجاهي نحو الفلسفة:
أشرتُ سابقاً أنني كنتُ أحظى بتقدير خاص من بعض العلماء العراقيين الكبار، وعلى رأسهم الشيخ المظفر+ الذي كان عالماً مجدداً وفيلسوفاً، وهو الذي حبّب إليّ مادّة الفلسفة، التي عرفتُ فيما بعد بتمكّني النسبي فيها.
وحتى كانت أطروحتي الجامعيّة عام 1967 م، عندما تخرجتُ من كليّة الفقه بحثاً بعنوان: الفلسفة الوجودية؛ وكان هذا الأمر مستغرباً، وكان يعتقد البعض أن الوجودية هي دعوة للإنحلال والإلحاد ! وإلى ما هنالك.

عود على بدء: مجلس الوالد العلمي:
كانت دراستي يوميّة على الوالد +، مثلاً في أيّام العطلة كانت دراستي تستمر لثلاث أو أربع ساعات، وحتى أثناء الطعام يطلب مني إعراب البيت الفلاني، أو الجملة الفلانية، وكان يحرص على حضوري مجلساً كان ينعقد في ديوانه، ويحضره بعض الأدباء والمتفقّهين والمعنيين بالأدب، وكانوا يقرأون قصائدهم.
أحسستُ بعد انقضاء هذه الفترة أنني امتلكتُ ناصية الكتابة الشعريّة، بدون أخطاء لا في الوزن، ولا في القافية، ولا في النحو.
سؤال: قلتُم أنّ الوالد درّسكم أوليات العلوم الحوزويّة بنفسه، فهل كان بصدد إرسالكم إلى النجف الأشرف، أو هل فاتحكم ذات مرّة بذلك، أو طلب منكم الإنصراف لطلب العلم في المستقبل؟
فاتحني بذلك مراراً، وكان يدعو لي للذهاب إلى النجف، كما كان يقول لي أثناء الدراسة: هذه الدروس ستحتاج إليها في دراستك في النجف، أي دراسة النحو والمنطق والفقه.. والحق أنني استفدتُ كثيراً بسبب هذا التأهيل، واستطعتُ أن أتجاوز الكثير من المقدّمات بوقت قصير، كما أسلفت، كما أنّه عملياً نمَّى فيَّ حبّ اللغة وطلب العلم والشاعريّة.
المشاركة الشعريّة الأولى:
جوّ النجف ـ كما هو معلوم ـ هو جو شعري وأدبي، وبدأتُ مبكراً بنشر قصائدي في المجلّات، وأحدها مجلّة النجف التي كنّا نصدرها في كليّة الفقه، ومجلّة الكلمة المعنية بالأدب الحديث، ومجلّة عبقر وهي مجلّة شعريّة كانت تصدر في النجف.
كما نشرتُ في مجلّة العرفان، ومجلّة الأديب اللّبنانية التي كان يصدرها الأديب ألبير أديب، وأوّل قصيدة نشرت في مجلّة العرفان بعنوان: رمضان، إمّا في العام 1962م أو في أوائل 1963م، والأغلب في أواخر 1962م.
كما شاركتُ في مؤتمر أدباء العرب بقصيدة، والذي انعقد في العام 1969م في بغداد والنجف، فشاركتُ بقصيدة في النجف اعتبرت قصيدة المهرجان، وكانت أميز قصيدة، بمحضر ومشاركة شعراء عراقيين ومصريين .. الذين لم يكونوا يتوقّعون عالم دين معمم يبدع بقصيدة سمتها العامّة الغزل.
كما مارستُ كتابة النقد الأدبي، ونقد الفكر الديني الإسلامي في فترة النجف الأشرف، مضافاً لمشاركتي في تحرير مجلّة النجف التي كانت تصدر عن كليّة الفقه، وكنتُ حينها طالباً في الكليّة في السنة الثالثة أو الرابعة.
مجيء السيّد هاني فحص:
ذهابي إلى النجف الأشرف كان سنة 1960م أمّا السيّد هاني فحص فقد جاء سنة 1963م، وقد درس عليّ جزءاً من النحو، وأشهد أنه كان سريع الخاطر والتحصيل، فضلاً عن أنه بدأ بالكتابة مبكراً، ومنذ ذهب إلى النجف ـ وكنت قبل ذلك قد مارستُ الكتابة ـ وكان السيّد هانيq يعرض عليَّ ما يكتبه، ورأيتُ أنه يملك من الموهبة والتطوّر .. كما وقد عَمِل في الصحافة.
العودة إلى لبنان والإنخراط في القضاء:
عدتُ إلى لبنان، وتقدّمتُ إلى القضاء في العام 1973م ونجحتُ، حيث فزتُ بالدرجة الأولى في الإمتحان، ولكنّ الظروف اقتضت إلغاء هذا الإمتحان، الذي تجدد في العام 1974م، ونجحتُ أيضأ في الإمتحان، وعيّنتُ قاضياً شرعيّاً.
وهنا أود أن أقول بأنني لم أتقدم إلى القضاء برغبة عميقة، بقدر ما وجدتُ أنّ القضاء ـ بالإضافة إلى كونه جزءاً من اختصاصي الفقهي كعالم ديني ـ فإنّه يوفّر لي حريّة ووقتاً أكبر، خاصّة وأنني بحكم تكويني الفكري والثقافي لم أكن منسجماً تماماً مع وظيفة الوعظ والإرشاد على الطريقة المتبعة في لبنان.
وكنتُ ميّالاً إلى البحث والحوار والإهتمام بالشؤون الفكريّة، وقد ساعدني عمل القضاء على شيء من التفرّغ لمتابعة القراءة والتحصيل من جهة، وعلى الإستجابة للعشرات ـ إن لم أقل المئات ـ من الندوات والمحاضرات، سواء في النوادي أو في الجامعات.
ثم المشاركة أيضأ بعشرات المرات في مؤتمرات فكريّة أو سياسيّة إسلاميّة خارج لبنان، بأوروبا، وأفريقيا، والبلاد العربية، وأمريكا.
في المقاومة والقضية الفلسطينية:
والأمر الأساسي الذي كان يُشكّل هاجساً قويّاً في فكري وعاطفتي هو القضية الفلسطينية، وخاصّة في السبعينات، فساهمتُ في نهضة المقاومة مساهمةً أكاد أقول أنّها شبه كاملة، دون أي تقصير، حتى أنّ ذلك شغلني عن همومي العلميّة والفكريّة، مع العلم أنني شاركتُ في كتابة عدد كبير من الأبحاث والمقالات ذات الطابع التنظيري لمشروع المقاومة، وقد نشرت من هذه الأبحاث كمّية كبيرة في مراكز الدراسات الفلسطينية، وكانت حركة فتح هي الأبرز والأهم، وقد كان لها مراكز دراسات تصدر دوريّة، ويكتب فيها من قبل مناضلين ومفكرين وسياسيين؛ وكانت تشكّل مرجعاً للقضية الفلسطينية، ولكنّ أكثر هذه الأبحاث تنشر دون أسماء.
العلاقة مع السيّد موسى الصدر:
خلال العام 1973م بدأت علاقة وثيقة مع السيّد موسى الصدر، بحيث كل أسبوع كنتُ ألتقيه في مدرسة صور، التي أنشأها لطلبة العلوم الدينيّة، وكنتُ أزوره في صور، وكان يزورني أكثر من مرّة في شقراء .. وولد انسجام غير عادي معه، واكتشفتُ جوانب شخصيته الفكريّة والإجتماعيّة، واستمرّت هذه العلاقة إلى العام 1975م ولم أرشح نفسي للمجلس الشيعي، ولكنني مع ذلك انتخبتُ في المجلس الشيعي لرغبة أَلحّ عليَّ بها السيّد موسى، واستمرت العلاقة مع الإمام الصدر حتى غيابه في العام 1978م.
لقاء قبيل زيارة ليبيا:
أذكر هنا لقاء حصل مع الإمام الصدر في فندق هليوبوليس Heliopolis، في مدينة عاليه، وكنتُ يومها في زيارة لأستاذنا السيّد مصطفي جمال الدين q، حيث كان يصطاف تلك السنة، وقبل وقت قصير من زيارة السيّد الصدر إلى ليبيا، شاهدي الحي على هذا اللقاء هو الحاج أحمد عجمي، وجاء السيّد موسى لزيارة السيّد مصطفي، وجلسنا جلسةً مطوّلةً استعرضنا فيها شؤوناً كثيرة.
وكان السيّد موسى زار ليبيا قبل ذلك بسنة أو أقل، وأذكر أنني سألته عن شخصيّة القذافي، وكان معمّر القذافي يشكّل شخصيّة مبهمة، منهم من يغالي في امتداحه، ومنهم من يرى فيه شخصاً مجنوناً، وكنتُ أعتبر أن السيّد موسى ناقد مهم للرجال.
وأذكر من جملة ما قاله السيّد موسى عن القذافي أنّه شاب متحمّس ويطمح إلى مكانة عبد الناصر، وبالدقة ينقل السيّد موسى أنه قال لمعمّر القذافي أنّ جمال عبد الناصر جاء على رأس النهضة القوميّة العربيّة وتوفّرت له عوامل الزعامّة والمكانة القوميّة التي نعرفها، ويتابع السيّد موسى قوله للقذافي: وإني أرى فيك مشروع زعيم على رأس النهضة الإسلاميّة، ولم يبالغ السيّد في مدحه، كما لم يتناوله بسوء، وحينها زدتُ تأكّداً مما سمعتُه في هذه الجلسة عن القذافي من السيّد موسى الصدر.
تعقيب: والأغلب أنّ القذافي كان يريد اجتذاب الإمام الصدر في استجابته لموضوع النهضة الإسلاميّة، ولكنّه لم يكن ينوي له خيراً، وهذا بتقديري كان نتيجة شعور القذافى بضآلته الفكريّة تجاه عملاق ومفكّر كالسيّد موسى الذي ربما يكون مؤهلاً هو لزعامّة هذه النهضة، وهذا في نظري ربما يكون أحد الأسباب لغدر معمّر القذافي بالسيّد موسى الصدر.
الإعتقال ثمّ الإبعاد:
خلال العام 1984م تمّ إبعادي عن صيدا، حيث داهم الإسرائيليون منزلي، وكان عندي السيّد محمّد جواد الأمين؛ فاعتقلونا. جاء ذلك بعد خطاب ألقيتُه في شقراء، في ذكرى أسبوع ابن عمّتي هاني الأمين ـ وكان سفيراً للبنان في أوروبا، والذي كان مكلّفاً من قِبل رئيس الجمهوريّة للتفاوض مع الإسرائيليين بالناقورة ـ وقد كان خطابي في أسبوع المرحوم هاني ناريّاً ضد الإحتلال الإسرائيلي. أضف لذلك نشاطي في صيدا، لاسيما الإجتماع في مسجد الزعتري، الذي صادف قبل احتفال شقراء بعشرة أيّام، حيث هتفنا بضرورة المقاومة المسلّحة. وكان الشيخ راغب حرب يتردد عليَّ وينام عندي، ثم قُتل.. وكنتُ شكّلتُ هيئة علماء المقاومة من علماء السنة والشيعة ..
بعد ذلك كنتُ متوقعاً القتل، لكنّهم هاجموا منزلي الساعة 12 ليلاً، واعتقلوني، قاومتهم باليد .. أخذونا إلى جزين، وأوهموني أنّه صدر بحقي حكم إعدام، جاوبتهم أجوبة حادّة، وقلتُ لهم أنّ أمنيتي أن أموت على يدكم، خلال ذلك جاء جنرال يهودي يوحي بالقسّوة واللطف ..وفي النهاية جاء ضابط وقال: قررنا عدم إعدامك، لكن نحن في بيروت أقدر عليك من هنا.
وقبل ذلك بليلة كنتُ على تواصل ـ هاتفيّاً ـ مع السيّد محمّد حسين فضل الله، وطلب مني بعاطفة وحرص الإنتباه على نفسي. وحينها كان تواصلي مع السيّد فضل الله أكثر من تواصلي مع الشيخ شمس الدين، لذا عقب خروجي من الإعتقال وإبعادي إلى بيروت، فقد طلبتُ من السائق الذي أوصلني إلى بيروت ـ وهو درزي ـ أن يأخذني إلى بيت السيّد محمّد حسين فضل الله، وكنتُ حينها بدشداشة وبدون عمامة ..! ليلاً وصل الخبر للإذاعات والإعلام، المحلّي والعربي، بأنّه تمّ اعتقال قاضي شرع صيدا، فتوافد عشرات الصحافيين إلى منزل السيّد محمّد حسين.. يومان بقيتُ لدى السيّد محمّد حسين فضل الله، ثمّ انتقلتُ إلى منزل شقيقة زوجتي..

اقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين: لا مشروع حضاري جديد خارج الهوية الاسلامية

بين شقراء وصيدا وبيروت
سؤال: بعد عودتكم من رحلتكم العلميّة من العراق كيف كانت صورة نشاطكم في لبنان بين بيروت والجنوب؟
فترة التبليغ الديني في شقراء:
قضيتُ قرابة السنتين في منزل الوالد في شقراء، خلفاً له، وهو الذي كان يتابع العمل التقليدي لرجل الدين في منطقة شقرا وحولا وبرعشيت .. في فترة ندرة رجال الدين، وهذا ما جعل لبيتنا خصوصيّة، لكون الوالد هو العالم الوحيد للمنطقة وكان بمثابة مرجعية لها.
وقد حاولتُ الاستمرار بهذا النهج، مع إضافات، وكثّفتُ من حركتي بالتواصل مع المحيط.. وكنتُ دائماً أشارك في مناسبات العزاء على مستوى المنطقة، وكان في منزلنا مكتبة مميّزة للوالد، فيها أنوع الكتب، في التراث، والفقه، والأدب، فكنتُ أقضي مرحلة ليست بالقليلة بالمتابعة..
تعزيز الحراك الفكري في جبل عامل:
ونسجّتُ هناك شيء من العلاقة مع جيل جديد، جيل متعلّم في المنطقة.. ومنذ ذلك الوقت، أقيمت ندوات في بنت جبيل ومنطقتها، وفي صور عبر المدرسة الدينيّة التي كان يرأسها الشيخ موسى عز الدين q. وأقمّنا ندوة دوريّة نصف شهريّة في المدرسة الدينيّة في صور، يحاضر فيها أحد العلماء الشباب، ومنهم المرحوم الشيخ عبد الله المديحلي، والسيّد هاني فحص، وعدد آخر من أهل العلم، واجتذبت هذه الندوة عدداً كبيراً من الشباب المتعلّمين من المثقّفين في صور والمؤمنين، وكنا نقيم فيها احتفالاً سنوياً بمولد الرسولw، وكنتُ المشارك الأساسي في هذه النشاطات المتعددة.
في صيدا:
وهذا كان قبل استلامي مركز القضاء، الذي تسلّمته في مدينة صور أولاً لمدّة سنتين، ثمّ انتقلتُ إلى مدينة صيدا؛ ولم يكن ذلك بتخطيط مني، وإنّما كان برغبة من المرحوم الشيخ علي العسيلي ـ وهو كان قاضياً في صيدا ـ وأحبّ أن ينهي حياته القضائيّة في صور، لوجود بيت له هناك، وصلات خاصّة.
وكانت هذه النقلة نقلةً نوعيّةً ليس في المكان فحسب، ولكن في دائرة العلاقات الاجتماعية والدينيّة والطائفيّة، وعلى الأخص في المجالات الفكريّة والثقافيّة، لكون مدينة صيدا متّسعة وجامعة، وأتاحت لي ذلك خلال فترة قصيرة للبروز بين الأخوة من علماء السنة، وحتى بعض علماء الشيعة.
وأسستُ لنهج التقارب والمودة بين المسلمين، وكانت الاستجابة أكثر مما أتوقّع، وكانت منطقة غنية ومنوّعة، وتواصلي مع المطارنة بشكل دائم، وكان في المنطقة الأب سليم غزال، وكنتُ أُدعى إلى دار العناية، مؤسسته، والتي هي إحدى المعالم الأساسيّة.
وقد رسّخ هذا الأمر علاقة مميزة مع مسيحيّي المنطقة، بحيث كنتُ أدعى بصورة دائمة إلى المؤسسات المسيحيّة في القرى المسيحيّة في قرى الزهراني، وخاصّة بلدة مغدوشة، التي كنتُ أُلقي فيها محاضرات، والتي كان الإقبال عليها كبيراً من المسيحيين، حتى أنّ أحد رجال الدين المسيحيّين قال لي: إنّ أهل مغدوشة يحتفون بمجيء السيد محمد حسن الأمين إلى البلدة بأكثر مما يحتفون بمجيء المطارنة المسيحيين..
صيدا والمقاومة واحتلال 1982:
بدأ الاحتلال الإسرائيلي عام 1982م، وكما نعلم فإنّ بشائر المقاومة بدأت منذ هذا الاحتلال، وكانت صيدا في تلك المرحلة مؤهّلة كمدينة مركزية لاحتضان المقاومة، وتعزّزت بصورة ملفتة النشاطات الدينيّة والاجتماعية والسياسيّة في مواجهة هذا الاحتلال. وبحسب الأخوة في مدينة صيدا فإنهم كانوا يعتبرون أنّ لي دوراً أساسياً في تحريك هذا الجو، وأصبح منزلي أحد المنازل الأساسيّة لاجتماع الفعاليّات الصيداوية الدينيّة والمدنيّة. وبالإضافة إلى هذا النشاط ضد الاحتلال بادرتُ مع أخوة، علماء جبل عامل لإقامة تجمع العلماء المسلمين سنّة وشيعة، لمواجهة الاحتلال.
وأذكر أنّ المفصل الرئيسي لهذه المسيرة المقاوِمة بدأت في لقاء دُعينا إليه يوم جمعة، في مسجد الزعتري ـ وكان هو الأكبر والأهم في صيدا ـ وكان احتفالاً حيوياً ويضم الآلاف من شباب صيدا ورجالها، وتمّ في هذا الاحتفال ـ كما اتفقنا سابقاً ـ إعلان الدعوة إلى المقاومة المسلحة في وجه الاحتلال الصهيوني، وكان الإسرائيليّون يعرفون ماذا يجري في هذا اللقاء، ولذلك حاولوا إدخال الرعب إلى القلوب، بأن استحضروا عدداً كبيراً من الدبابات والجنود، وأحاطوا بالمسجد، أملاً بأن يفرّقوا هذه الجموع .. وكانت النتيجة أن هذه الجموع ازدادت إصراراً، وخرجت تظاهرة من بين الدّبابات الإسرائيلية، وهذا يؤرّخ لمرحلة مفصليّة من تاريخ بدء المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، وعلى أثره استشهد المرحوم الشيخ راغب حرب، الذي كان معنا في المسجد، وكان ينام عندي في صيدا حينما كان مطارداً، ثمّ كنتُ أنا أنام في أماكن أخرى.
وكان يتوقع الكثير أن يطالني الاغتيال، وهنا لا بدّ أن أذكر منقبة للوجيه الحاج توفيق زيدان ـ وكان يبلغ قرابة المائة عام ـ وقد طلب مني أن أذهب سراً إلى بيته خلال الأيام العصيبة، وكنت أقيم فيه وأنام..
وبعد فترة ليست بالطويلة هوجم بيتي ليلاً في صيدا، عقب اغتيال الشيخ راغب، وكان عندي نسيبي السيد محمد جواد الأمين، وشقيقي، دخلوا المنزل واقتحموه، وسألوا عني، واجهتهم مباشرة، وقمتُ بالدّفاع عن نفسي، ولكن تكاثروا، وقد اعتقلوني ـ كما أسلفتُ ـ وتمّ نقلي، ونقل السيّد محمد جواد الأمين لاشتباههم به، إلى منطقة عبرا، بمجموعة سيارات، حتى تأكّدوا أنني أنا محمد حسن الأمين، فتركوا السيّد محمّد جواد.
في بيروت:
وقد قاموا بعدّة محاولات لإرهابي، ومنها تهديد بالإعدام، ولكنني أعتقد أنّني نجوت من الإعدام، بسبب ردة الفعل الثوريّة الحقيقيّة بعد اغتيال الشيخ راغب. وكنتُ أمثّل بالإضافة لكوني رجل دين بوصفي قاضياً شرعيّاً في منطقة صيدا ـ الزهراني. ربما هذا دعاهم لتجنّب تنفيذ الإعدام، والأخذ بخيار إبعادي إلى بيروت.
وأقمتُ في بيروت لمدّة عام، إلى ما قبل الانسحاب الإسرائيلي من منطقة صيدا، وأيضاً ربّ ضارة نافعة، فقد فتحت لي بيروت، والحدث الذي هزّ مشاعر اللبنانيّين عموماً، وعلى المستوى العربي، باعتقال وإبعاد قاضي شرع صيدا؛ فقد فتح مجالاً للنشاط الفعّال في دعم المقاومة على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. ودعيتُ إلى أغلب المنابر السياسىة، سواء منها الإسلاميّة أو غير الإسلاميّة، وإلى بعض الجامعات، للمحاضرة عن الاحتلال وأخطاره، وضرورة الوحدة الوطنية في مواجهة الإحتلال. وهي مرحلة قصيرة في الزمن، لكنها كانت مرحلة كثيفة وخصبة في التأثير والعلاقات مع الأطراف الوطنية اللبنانية. كما دعيتُ إلى إيران على إثر ذلك، وبعض البلدان العربية، كالأردن، وهذا ما أتاح لي أكثر فأكثر في ترسيخ خيار المقاومة، ومع هذا ترسيخ فكرة الوحدة والحوار، وعلى جميع المستويات الدينيّة والثقافيّة.

(من كتاب أمالي الأمين للشيخ محمد علي الحاج العاملي)

السابق
مملكة «ليختن» الجميلة والغنية.. دولة صغيرة تقع في جبال الألب!
التالي
السنيورة يستنكر قرار ​الكنيست بالموافقة على قانون بجعل دولة إسرائيل هي الدولة القومية