كما تكونوا يولَّ عليكم؟ أم العكس؟

يومياً، عند شروق كل شمس، يستفيق أهل السلطة اللبنانية على خلافٍ بينهم، حول غنيمة، "حصة"، أو حول موقف، أو أي شيء آخر يمكن تخيّله، فيتبادلون الكلمات النابية، الجارحة، الفاضحة؛ بكل حيوية ونشاط.

كأن في دواخل كل واحد منهم آلةً منتجةً لنوع من النقار؛ شبيه بذاك الذي يسود في يوميات الأزواج غير المتراضين، ولكن غير الراغبين بالانفصال، أو غير قادرين عليه، فينقضّون على بعضهم، دورياً، بانتظام، بالدور. وغالباً بلسانٍ سليطٍ لا تنقصه الوقاحة، أو العبارات النابية؛ أو روح الانتصار، حتى لو كانوا ضعفاء، أو تابعين. يسمّونه “التراشق الإعلامي”. يألفه اللبنانيون، بل أحيانا ينتظرونه، يتسلّون به، يؤيدونه أو يعارضون. وفي جميع الحالات، يتوقعون دائماً مزيدا منه.

إقرأ ايضا: دلال البزري تفْتَحُ «دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية»…

ومن دواعي الفضول أن أصل كلمة “تراشق” تعود إلى “الرشق”، أو القوس السريعة السهم، الرشيقة، أي أنها تعود إلى أيام القبائل العربية، داحس والغبراء، وحروبها الدائمة. مع الفرق البسيط: التراشق “الإعلامي” اللبناني اليوم لا يصيب إصابة قاتلة. ولا تسيل الدماء على جَنَباته. بالعكس: إنه يحيي أصحابها، يمنحهم الرهبة، الوجود، الدور، وربما الوظيفة. بل قد يبلغ التراشق أحياناً درجاتٍ عاليةً من العنف، يسهل معه توقع مبارزة بالسيف بين المتراشقين، صوناً لكرامتهم السياسية. ولكن في اليوم التالي، لا يحصل شيء؛ الذي يُفترض أنه قُتل “معنوياً” بالتهم والسباب والألفاظ المهينة، القبيحة… الذي يُفترض أن دماءه سالت على خشبة المسرح، تراه انبعث من جديد من بين الرماد، رفع سهمه واستعد لجولةٍ جديدةٍ من التراشق. وهكذا.. فلا حساب على كلمات التراشق هذا، ولا محاسبة ولا تدقيق ولا تحقيق ولا تسجيل بالمدوّنات. يمكن أن يتساءل المرء عن “فائدة” التراشق الإعلامي، أو مكتسباته، أو “التراشق الإعلامي الجديد في لبنان غرضه التملّص من صفات الفساد والعقم” “الحصص” المتوخّاة منه. ولكن لا شيء هنا أيضاً. إنما ركودٌ، وقلّة حيلة، وانعدام قرار.

ما يدفع إلى السؤال: ماذا يفعل أهل السلطة عندما يتراشقون؟ يموّهون أولاً: فكما يتباكون عند كل شاردةٍ وواردةٍ على “ضعف الدولة”، على إفلاسها، غيابها، ويتساءلون بإخلاص عن وجودها، ويصادرون سؤال اللبنانيين السمج “أين هي الدولة” (“وينية الدولة”؟)… سؤالٌ بائت، فائت. فكما يتباكون على سقوط الدولة إذن، وهم المسؤولون الأولون عن حصوله، فيتنّصلون من جريمتهم بتدميرها، ويقدمون لجماهيرهم المؤمنة صكّ المعاني، ومعه البراءة السياسية.. كذلك يفعلون بالتراشق الإعلامي.

الواحد منهم يصف الآخر، بفساده وفضائحه وتقصيره وقلة “شعبيته”… إلخ، ويكون موفّقا في وصفه، يرد عليه هذا الآخر بما تيسّر له من وقائع، هي أيضا مقنعة… فيخلق بذلك عالما آخر من المعاني، عالم الحقائق الخاصة بكل زعيم، مهما تقلبت مواقفه؛ عالم يومي، أصبح دورياً، طبيعياً، ومن صميم الحياة العامة، ومصالح الناس والبلاد.. خارج التراشق لا معاني، لا مستقبل، لا أمل ولا قرار. التراشق وحده يملأ الفراغ السياسي، الفراغ بالرؤى، بالأفكار، بالخطط، بالذمة، بكل ما يمكن أو يورد على بالكَ من الحاجات الملحة للاجتماع السياسي.

كل هذا الروتين فهمناه، وأصبح من اليوميات. فهمنا أن أهل السلطة يتراشقون إعلامياً لملء الفراغات. أما أن يُزَجّ الشعب نفسه في هذا التراشق، فهو ما يخرجنا من هذا الروتين. الذي حصل أنه منذ أيام أطلق رئيس البلاد، أعلى سلطةً رسميةً، رشقاً تجاه المجتمع حمّله فيه مسؤولية الفساد الناخر في الدولة. بعدما كان فاسدوها يقتصرون، بنظره، على طرفٍ من أطراف السلطة، ها هو الآن يدعو اللبنانيين إلى “مساعدة الدولة في مكافحة الفساد، لأن لا إمكانية بإنجاز إصلاح في مجتمعٍ لا يريد شعبه مواجهة الفساد فيه”، فيثير بذلك موجةً من الاستنكار “الشعبي” عبر المواقع الاجتماعية، اضطر بعض نوابه إلى تقديم “شروحات” عن هذه الدعوة، إلى “تكحيلها”… فـ”عموها” بالقول إن الشعب اللبناني فعلاً فاسد، ودليله على ذلك انتخابه الطبقة الفاسدة نفسها التي حكمته قبل الانتخابات! وهذه فطنةٌ لا تشبه إلا فطنة “هل يتحمّل المجتمع اللبناني مسؤولية فساد الدولة؟” “وينية الدولة”؟ التي يغتابها أولئك النواب أنفسهم، والتي تبرئهم من مسؤولية تخريبها؛ النواب الملتزمون بالدفاع عن فكرة فساد المجتمع هم أنفسهم النواب الذين أعيد انتخابهم، على ظهر صفقاتهم وفسادهم ورشواتهم.. وكلها شبه معلنة. فأن يصفوا الذين انتخبوهم بأنهم فاسدون، فهذه درجةٌ من العبث، تحصل على خشبةٍ، في المسرح. تعطي الأدوار الأفعال معانيها. لكنها تبقى في المسرح، لا في الواقع. وهي تورّط المجتمع بالصعود إلى هذه الخشبة العبثية، ليكون شريكاً في تراشق إعلامي آخر، جديد.

التراشق الإعلامي الأول، بين أهل السلطة أنفسهم، يحمل حقائقه على طبق ملتبس: يود أن يقنعنا بنزاهته عن طريق رمي زميله بكل نعوت الانحطاط الأخلاقي. التراشق الإعلامي الجديد، بين أهل السلطة والمجتمع، غرضه، أيضاً، في هذه الأوقات الضائعة، التملّص من صفات الفساد والعقم، عن طريق تحميل المجتمع وزرهما. فنكون بازاء معسكريْن: شعب وسلطة متهمين بالفساد، يتراشقان إعلامياً وتويتريا وفيسبوكياً وربما إعلاميا أيضاً، والرابح الوحيد هو من بالغَ بـ”إطلالاته”.

إقرأ ايضا: السعداوي والمرنيسي والبزري .. رائدات في زمن التدين الوحشيّ

وكما في حالة التراشق الأول، عندما تجد نفسكَ مقتنعاً بتهم الفساد التي تصيب أهل السلطة جميعهم، بصرف النظر عن إصطفافاتهم الإقليمية والدولية، فإن التراشق الحاصل بينهم وبين المجتمع يطرح سؤال الواقعية: هل يتحمّل المجتمع مسؤولية فساد الدولة؟ نعم ولا. نعم: لأنه “كما تكونوا يولّ عليكم”. ولا: لأنه كما يولّ عليكم تكونوا. وللحديث صلة.

السابق
عِقد الحكومة ما زالت مستعصية وبرّي يدعو الى جلسة تشاورية
التالي
إعلان حفل شيرين عبد الوهاب يغضب جمهور ميريام فارس