انتفاضة فقراء البلد الغني

في العراق انتهت الحرب على الإرهاب، واستقر الحكم لأحزاب شيعية تربطها علاقات متفاوتة مع إيران! ثم ماذا؟ من هو المسؤول عن الفشل الموازي؟ من هو الفاسد، ومن هي الجهة التي تحرم العراقيين من خيرات بلدهم؟ بلد دجلة والفرات عطِش! بلد أكبر ثالث احتياطي نفط في العالم يعيش بلا كهرباء! بلد الـ «نصر على داعش» تسيطر على الوضع الميداني فيه ميليشيات «الحشد الشعبي» التي لا تقل مذهبية عن «داعش»! وبلد الانتخابات الحرة تجري فيه أكبر عملية تزوير للانتخابات، بحيث اشتريت محطات انتخابية بأكملها! واليوم تُوج مشهد الفشل الهائل هذا بعنصر جديد، ذاك أن الاحتجاجات كشفت عن حقيقة مرة: مطار النجف الذي أقفله المحتجون تديره ميليشيات خمسة أحزاب من بينها حزب «الدعوة» الحاكم. أخبار العراق على هذا الصعيد تتفوق في بعثها على الذهول أخبار «جمهوريات الموز» في أميركا الوسطى.

لكن الفشل طبقات، وهو إذ يستعير خبرات من خارج الحدود، يمعن في محوه حدود السيادة، فيفوض طهران إدارة موقعه الإقليمي، ويُعرض العراق لاحتمالات العقوبات ولارتداداتها، ويُعطي ضهره لتركيا، ويُعاقب الأكراد من موقعه المذهبي، ويُقاتل في سورية، ويُهمش السنة العرب، وتتقاطر نخبه الجديدة إلى بيروت للاستثمار في الاقتصاد الشيعي فيها، وهذا كله يجري في ظل مواطن عراقي «شيعي» عطشٍ، وجائعٍ، ومحترق بشمس تموز.

اقرأ أيضاً: بين موسكو ومسقط ودمشق وطهران

لكن الانتفاضة «التموزية» في المدن العراقية، تمت أيضاً بقرابة لبؤر الانتفاضات التي تشهدها مدن إيرانية. لا بد من التفكير بهذا طالما أنهما (الانتفاضتان) تجريان في الوقت نفسه وتستهدفا سلطتين تمتان إلى بعضهما بعضاً بقرابة تصل إلى حدود الاستتباع. مع الحرص على لحظ فوارق بين النظامين لجهة أن التجربة العراقية عصية على أن يتم دحر انتفاضة فيها عبر إقدام السلطة على تعطيل شبكة الإنترنت، وهو ما فعلته الحكومة العراقية، في استعارة أكثر من رمزية لتقنيات قمع طهران انتفاضات الإيرانيين المتتالية.

من المبكر القول أن ما يجري في العراق ثورة أو حتى انتفاضة. انه إعلان عراقيين، شيعة بالدرجة الأولى، ضيقهم بالسلطة الشيعية في بلدهم. وحتى الآن لا يبدو أن ثمة قنوات تصريف سياسي لهذه الاحتجاجات. مقتدى الصدر في لحظة مفاوضة على مستقبل تياره في الحكومة بعد فوزه في الانتخابات، وحزب «الدعوة» الحاكم نفسه يملك قدرة على ركب موجة الاحتجاجات عبر الشخصية الرديفة، أي نوري المالكي.

والغريب في العراق أنه بلد غير مقفل. هذه الفضيلة الوحيدة المتبقية من خطوة واشنطن إسقاط نظام صدام حسين. بلد غير مقفل وسلطة طائفية فاشلة مرعية إلى جانب معارضيها من قبل مرجعية دينية تقيم في النجف التي تسيطر على مطارها أحزاب السلطة، في وقت لا يستفيد أهلها الفقراء وأبناء عشائر محافظتها من الثروات المتكدسة على ضفاف الاستثمارات الكبرى التي تولت تأمين خدمات زوارها الذين تبلغ أعدادهم سنوياً عشرات الملايين.

البصرة أيضاً كان من المفترض أن تكون من أغنى مدن العالم. ثروة العراق هناك، ولا شاطئ بحرياً في بلاد الرافدين سوى هناك. المدينة اليوم تحرقها شمس تموز. النفط نفسه مختنق في مدينة أقصى الجنوب، ذاك أنه عائم في طبقات جوفية غير بعيدة عن القشرة الأرضية الخارجية. روائحه المنبعثة في أرجاء المدينة، إذا ما أضيف إليها حر تموز ولهيب آب يجعل من العيش تجربة جهنمية بالفعل. الأغنياء الجدد في المدينة أقاموا جزرهم المعزولة عن جهنم الصيف، وفقراؤها لم تتسع لهم فرص العمل الضئيلة التي وفرتها شركات النفط المتقاطرة إلى هناك من أنحاء العالم.

هذا العراق الصعب جُربت سلطة البعث المتعسفة فيه، وكانت تجربة حروب وموت متواصل، وجُربت سلطة الأحزاب الدينية الشيعية فيه ففشلت على مختلف الأصعدة.

تجري اليوم في العراق انتفاضة على وقع انتفاضة موازية في إيران، وعلى وقع تغيير كبير في موقع طهران بعد حال التمدد الهائل لنفوذها في المشرق. هنا علينا أن ننتظر وأن نراقب.

السابق
أوضاعنا وأفكارنا وصفقاتهم
التالي
بعد السجال بين شيعة المقاومة وشيعة الدولة.. الناشطون يغردون #وحدتنا_قاهرتكم