ثورة إيران إذ تفقد ذاكرتها

للثورات عدو قاتل هو الوقت. «كل الثورات تتبخر» يقول فرانز كافكا، «وتخلف وراءها وحولها بيروقراطية جديدة».
أحد الثوار الكبار، ليون تروتسكي، يعترف بأن الجماهير لا تنخرط في الثورة وفي بالها خطة واضحة لإعادة الهندسة الاجتماعية، بل تفعل ذلك مدفوعة بشعور حارق بأنها لا تقوى على تحمل النظام القديم أكثر!
تنطفئ في قلب الورثة هذه الشعلة الأولى التي ألهمت قلة قليلة لخوض الصراع المميت على المستقبل. يذوي لمعان العبارات الكبيرة في عيون الفتية الذين يتسلمون البلاد من ثوار شاخوا. الأحداث تمتحن وعود الثورة بقسوة.
الوقائع تلوي عنق الأحلام. وإيران لن تشذ عن هذه القاعدة… لا تواجه الثورة الخمينية اليوم، أميركا، أو إسرائيل، أو السعودية، بل تواجه الوقت وامتحاناته التي لا ترحم. تواجه تلك الاستحالة بأن تستمر الثورة فتية نضرة ومغرية، بفعل ظروف النشأة، وخطاب النشأة، ومخاوف النشأة، كأن الزمن لا يمر.
في إيران اليوم جيل جديد ما عاد يصلح أن يخاطبه المرشد بمساوئ الشاه.

اقرأ أيضاً: اشتراط بقاء الأسد بخروج إيران

تكفي زيارة إلى موقع «غوغل» والبحث في منصة الصور، ليعرف الشاب الإيراني أن الشاه ليس الوحش الذي أرداه الخمينيون… ليعرف أن الإيرانيين ليسوا فقراء فحسب انقضوا على نظام سارق للثروات، ومفسد في الأرض.
يدرك خامنئي هذه الهوة التي باتت تفصل بينه وبين جيل جديد من الإيرانيين لا ينظر بالعين نفسها إلى علاقته بالعالم وعلاقة العالم به. تبعد المسافة بين المرشد والناس بقدر ما تضيق بين الناس والعالم بفعل التكنولوجيا، ووسائط الاتصال وعولمة الأفكار وأنماط الاستهلاك والقيم… وكلها مما يمتحن الثورة ومشروعها وأسبابها.
لا يدرك المرشد ذلك فقط، بل يعيش هاجسه كما بات يتسرب من بين عباراته.
ليس مهماً في هذه المرحلة ما يقوله خامنئي بشأن المواقف الكبرى والسياسات العامة، بل تلك العبارات التي تنزلق من خطبه ولا تثير شهية وكالات الأنباء الدولية.
قبل أيام قليلة، قال خامنئي إن «العدو بات يعلم أنه إذا استهدف إيران فإنه سيتلقّى 10 صواريخ عن كل صاروخ يطلقه»، مذكّراً بأن «صواريخ الأعداء كانت تطال كل المدن الإيرانية، ولم تكن لدينا قدرة على الرد في الماضي».
شدت العبارة الأولى عناوين وكالات الأنباء وغابت العبارة الثانية الأهم عن مقتطفات الخطاب؛ وهي الأهم لأنها تكشف أن المرشد وثورته دخلوا علناً امتحان الوقت والذاكرة، وأنه يخاطب جيلاً بلا تلك الذاكرة عن الصواريخ التي «كانت تطال كل المدن الإيرانية، ولم تكن لدينا قدرة على الرد»، وهي الذاكرة التي بها فقط وعبرها وحدها يبرر أكلاف مشروعه الصاروخي على إيران والإيرانيين.
لفتني أنه قبل خطاب خامنئي بأيام قليلة كان الأمين العام لميليشيا «حزب الله» حسن نصر الله يُخضع نفسه للامتحان إياه. امتحان الذاكرة.
يقول نصر الله في معرض تعبئة جمهوره ضد إسرائيل إن «الشباب والصبايا في لبنان اليوم خصوصاً في الجنوب لم يروا لا قصفاً ولا ضرباً ولا سجوناً ولا معتقل (أنصار) ولا معتقل (الخيام) ولا معتقل (عتليت) ولا اعتقالات على الطرقات، ولا خوفاً، ولا مداهمات في الليل وفي النهار لبيوت الجنوبيين، ولا تهجيراً، ولا إهانات على الحواجز… يعيشون بأمن وأمان وكرامة وسلامة، ولا يعرفون ما الذي كان يحصل في الماضي». ويشدد نصر الله على أنه على هؤلاء «أن يقرأوا»، وأنه من واجب جيل الأمين العام «أن نطلعهم على كل المعاناة التي عاشها أبناؤنا والتي عشناها نحن، جيلنا والجيل الذي بعدنا، وآباؤنا وأجدادنا خلال عشرات السنين في مواجهة هذه العدوانية الإسرائيلية، عندما كان الصهاينة في كل يوم يدخلون إلى القرى الجنوبية الحدودية دون تمييز طائفي ويعتدون ويعتقلون ويفجرون البيوت ويعتدون حتى على مخافر الدرك وعلى نقاط الجيش اللبناني، ويقصفون ويدمرون الحقول ويهجرون ويهددون ويسلبون الأمن، وصولاً إلى الاحتلال لأرضنا، قبل 78 وبعد 78، وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي الكبير عام 1982».
هو جيل لبناني جديد، كما الجيل الإيراني الجديد، لم يعش الظروف التي يريد نصر الله الاستثمار فيها لتأبيد مشروعه حلاً لتلك المشكلات. هو عدو يقبع في الخطاب وتقبع ممارساته في الذاكرة البعيدة.
كم هي قدرة الخطاب عن معتقلات «أنصار» و«الخيام» على الإقناع أمام الأهوال المنظورة والمعيشة لوحشية التعذيب المتسرب من سجون سوريا والعراق والتي تديرها ميليشيات أو أجهزة حليفة لـ«حزب الله»؟
كم هي قدرة الخطاب عن الاجتياح الإسرائيلي والتدمير الإسرائيلي على الإقناع أمام اشتراك «حزب الله» وإيران بأبشع حرب تدمير للمدن منذ أهوال الحرب العالمية الثانية؟
ليس الأمر مقتصراً على امتحان الذاكرة، فقط، بل هو الفشل في إحلال الذاكرة واقعاً افتراضياً مكان الواقع المعيش على الشاشات وفي البيوت وفي المدن… لا يحتاج ابن «حزب الله» سوى أن ينظر حوله ليرى النازحين السوريين في قراه وفي جواره أينما ولّى وجهه، ليعرف معنى الكارثة الحقيقية والأثر المباشر لمفردات الوحشية والهمجية التي يكثر نصر الله من استخدامها في وصف إسرائيل. ولا يحتاج الإيراني سوى أن ينتبه إلى أن صواريخ بلاده هي التي تسقط على الرياض وليس العكس!

السابق
الجيش يوقف متورطين في إشكال طرابلس
التالي
كنعان: «اللامركزية الإدارية الموسعة» سنحملها معاً كتيار وقوات بعد ​الحكومة​