قراءة في الأزمة الأخيرة بين تركيا وإسرائيل

ماجد عزام

تبدو الأزمة الأخيرة بين تركيا وإسرائيل خطيرة وجدية في الحقيقة، كما الأزمات السابقة، ولكن الاختلاف هذه المرّة في تعدد أبعادها، فهي أزمة تركية أمريكية إسرائيلية، أو أزمة تركية إسرائيلية ببعد أمريكي واضح، وهي تعد الأخطر؛ كون الحكومة الإسرائيلية المتطرفة الحالية قد أطلقت عملية التسوية كما فكرة السلام مع الفلسطينيين متشجعة من تطرف ترامب وإدارته وصهيونييه، وباتت تسعى وراء علاقات مع دول عربية إسلامية مهمة بعيدا عن مركزية القضية الفلسطينية، وضرورة التوصل إلى حل سلمي نهائي لها.

للتذكير، فقد اندلعت الأزمة الأخيرة مع قيام أمريكا بنقل سفارتها من تل أبيب للقدس المحتلة، بالتزامن مع الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل في نفس اليوم ضد المتظاهرين في غزة، المحتجين على نقل السفارة في ذكرى نكبتهم، فبادرت تركيا إلى استدعاء سفيريها من واشنطن وتل أبيب، وطلبت من القنصل الإسرائيلي في إسطنبول المغادرة لبعض الوقت، كما احتضنت قمة إسلامية طارئة دعت إلى مقاطعة الدول التي تنقل سفارتها للقدس، وإلى مقاطعة (جزئية) للبضائع الإسرائيلية، إضافة إلى مواصلة العمل لتشكيل لجنة تحقيق دولية في الجريمة الإسرائيلية الأخيرة غزة، والنظر في إمكانية إرسال قوات دولية لحماية الفلسطينيين.

اقرأ أيضاً: الفلسطينيون مستقبل السوريين

بدت الأزمة الأخيرة نتاجا للتعاطف التركي الواسع والموقف الرسمي الشعبي الداعم للفلسطينيين في القضيتين أو الملفين الأكثر حساسية بين أنقرة وتل أبيب، وهما القدس وغزة. فقد اعتبرت أنقرة قرار نقل السفارة غير مقبول، وغير قانوني وغير شرعي، وهي تعترف بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية. وكانت بادرت إلى قمة إسلامية طارئة في كانون أول/ ديسمبر الماض يبعد قرار ترامب بنقل السفارة، ودعت إلى العمل السياسي الدبلوماسي لإفشال القرار المتعارض مع القرارات والمواثيق الدولية، كما دعت إلى مقاطعة كل من يتجاوب مع القرار الأمريكي.

ودعت تركيا مرارا كذلك إلى رفع الحصار عن غزة، وحاولت تقديم المساعدة الإنسانية قدر استطاعتها. كما استعدت لحل مشاكل البنى التحتية المنهارة فيه من مياه كهرباء مواصلات تعليم وصحة. كما بنت مستشفى تركيا هناك، وقدمت اقتراحا جديا لإرسال سفينة لتوليد الكهرباء مقابل سواحل غزة لحل الأزمة مرحليا إلى حين حلّ الأزمة بشكل نهائي، إلاّ أنّها ووجهت برفض وتعنت إسرائيلي مستند (للأسف) إلى رفض من رام الهك والقاهرة لتدخّل تركيا في ملف غزة، مع الانتباه إلى أن السلطة الفلسطينية لا ترفض الحضور والدعم التركي السياسي والاقتصادي، وترحب به، لكن شرط أن يمر من خلالها وضمن سياستها، تحديدا فيما يتعلق بغزة، ورفع الحصار الذي ترى رام الله أنه يمرّ حصرا بإنهاء الانقسام، وإعادة سيطرتها الكاملة هناك.

إسرائيل من جهتها تقودها الحكومة الأكثر تطرفا في تاريخها، وهي سعت بكل قوة لتشجيع ترامب على قرار نقل السفارة للقدس، رغم معرفتها ودرايتها بدلالته العميقة الاستراتيجية السلبية حتى على إسرائيل نفسها. وهي تستغل إدارة ترامب لإزاحة القضية عن جدول الأعمال التفاوضي مع قضية اللاجئين، والإصرار على الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية في الضفة الغربية، واستمرار احتلال غور الأردن (20 في المئة من الضفة)، ما يفرغ العملية التفاوضية من محتواها، ويُبقي الفلسطينيين مع حكم ذاتي بلدي موسع تحت الوصاية، بل السيطرة الإسرائيلية المارة على كافة المستويات.

تجاه غزة تستمر حكومة نتنياهو (ليبرمان) بينيت في تطرفها حتى الحد الأقصى، وهي ترفض المساعدة التركية أو أي مبادرات إقليمية ودولية مماثلة، رغم الحالة الإنسانية الكارثية فيها، ورغم تحذيرات الأجهزة الأمنية من انفجار حتمي لغزة في وجه الاحتلال، بينما تبدو حكومته السكرى بالتطرف ودعم ترامب وصهيونييه؛ غير مبالية حتى من احتمال الذهاب إلى حرب، رغم أنها لن تغير الوقائع الحالية بشكل جذري وكبير.

الأزمة التركية الإسرائيلية الأخيرة تعبر في أحد أبعادها عن تراكم الخلاف التركي الأمريكي في ملفات عدة، وقرار ترامب بنقل السفارة أغضب أنقرة التي تعتبر نفسها معنية جدا بالقدس وفلسطين. كما أجّج الخلاف على ملفات أخرى مثل سوريا ومكافحة الإرهاب، وحتى الخروج الأمريكي (الخاطئ وفق أنقرة) من الاتفاق النووي مع طهران، ولذلك جاء الرد المزدوج تجاه واشنطن وتل أبيب مع موقف سياسي مرتفع حمّل ترامب وواشنطن المسؤولية عن الجريمة الإسرائيلية بغزة، التي ما كانت (حسب أنقرة) لتقع لولا الدعم السياسي الأمريكي غير المحدود، كما الحماية دون حدود لتل أبيب في الأمم المتحدة ومؤسساتها.

رغم ذلك، ورغم المعطيات السابقة، إلا أن العلاقات التركية الإسرائيلية لن تصل إلى حد القطيعة التامة، أو إنهاء التبادل الدبلوماسي بشكل كامل بين الدولتين؛ لأن أنقرة تدعم حلّ الدولتين باعتباره الحل الأكثر جدية المطروح على الطاولة، وهي تعرف أن قطيعة تامة مع إسرائيل ستمنعها أو تحجم من فرصها في مساعدة الفلسطينيين، خاصة في غزة (كما قال صراحة القنصل الإسرائيلي المنصرف لمسؤولي وزارة الخارجية التركية) إضافة طبعا إلى حجم التبادل التجاري الكبير نسبيا بين البلدين، والذي يلامس حاجز الخمسة مليارات دولار، كما السعي لمنع إسرائيل من الذهاب بعيدا أو أكثر من اللازم في تحالفها وعلاقتها مع اليونان وقبرص.

إسرائيل من جهتها، رغم الدعم الأمريكي غير المسبوق، ورغم علاقتها المتنامية مع دول عربية وإسلامية مهمة، إلا أنها تعي أن تركيا دولة مركزية مهمة في المنطقة، لا تستفيد بل تتضرر من القطيعة معها، إضافة طبعا إلى البعد الاقتصادي المهم للعلاقة، كما قال وزير المالية موشيه كحلون، وموقع تركيا الجغرافي المركزي المهم الذي تمر من خلاله الطائرات الإسرائيلية في طريقها لأوروبا، ناهيك عن حضور تركيا ونفوذها وفعاليتها في أكثر من ملف في المنطقة، من فلسطين إلى العراق وسوريا مرورا بإيران، وهو الملف المركزي لتل أبيب، والذي تنظر إليه بعين الأهمية الخطورة في السنوات الأخيرة.

يجب الانتباه كذلك إلى أن قرار القمة الإسلامية الطارئة الأخيرة في إسطنبول بمقاطعة البضائع الإسرائيلية، وحديث الرئيس التركي عن نفس الملف في ما يتعلق بمقاطعة إسلامية جماعية منظمة للبضائع الإسرائيلية المنتجة والمصنعة في المستوطنات الضفة القدس والجولان، وهو قرار في جوهره يميز بين الاعتراف بإسرائيل ضمن حدود حزيران/ يونيو، وعلى قاعدة حل الدولتين، وبين المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك رفض الاعتراف بالقدس كعاصمة لها.

قبل الأزمة الأخيرة وبعدها ستستمر العلاقة التركية الإسرائيلية في الإطار الرسمي البارد مع بعد اقتصادي متين يدار بالكامل من القطاع الخاص في البلدين، وستظل فلسطين وقضيتها حجر عثرة كبير في الطريق بينهما. وبالتأكيد، فإن عودة الدفء والحميمية للعلاقة بين الجانبين يكاد يكون مستحيلا، أقله في المدى المنظور وحتى المتوسط.

السابق
بعد درجة الحرارة المرتفعة.. إليكم طقس اليوم والغد!
التالي
اليمن الذي لم يكن مهيئا للوحدة