«حوار تعليمي» حول أركيلة: التربية روح السياسة والروح بحاجة إلى تجديد

تتمحور معظم مشكلات التعليم الرسمي حول تقصير الدولة وانعدام الكوادر التعليمية المؤهلة بالاضافة الى انعدام وجود مبان واماكن صالحة للتعليم في مناطق كعكار والبقاع وخلو بعض المدارس الجنوبية من الطلاب ما يهدد باقفالها.وبين هذه المدارس وتلك يضيع الطالب في القطاع الرسمي وأمامه حلان: فإما اللجوء إلى التسرب المدرسي وإما اللجوء الى القطاع الخاص وفي الحالتين فاتورة تعليم باهظة يتكبدها الاهل لمن استطاع اليها سبيلاً.

هاتفني أحد الأصدقاء ودعاني لتناول فنجان قهوة في مقهى “الغواصة” في صيدا القديمة قرب جامع القطيشية. الساعة تشير إلى الثامنة مساء، المقهى شبه فارغ من الزبائن والصديق الأستاذ يدخن أركيلة من التنباك العجمي.

بادرني بالقول: سمعت أنك تعد ملفاً عن التعليم الرسمي. دعنا نتحدث بدون منهجية، دعنا نتناول خبريات عن هذا التعليم الذي يجب أن يستفيد منه فقراء الوطن. لن أجيب عن أسئلتك بل سأطلق لساني بحديث غير ممنهج.

أجبته: سأكون مستمعاً لك، تفضل.

اقرأ أيضاً: سيمون عبد المسيح: ميزانية المدرسة الرسمية لا تكفي فاتورة للمولد الكهربائي!

أسبقية التعليم الارساليات

قال الصديق: التربية هي روح السياسة والروح بحاجة إلى تجديد من آن إلى آخر. من كان يهتم بالتربية منذ القرن السابع عشر؟ أليس هناك أسبقية لتعليم الارساليات، ألم يهدف التعليم إلى ترسيخ سلطة من يريد الاستئثار بالسلطة. ألم يكن هدف المارونية السياسية أن تبقى بالسلطة ويعني بذلك سيادة تعليم الارساليات الأجنبية. لذلك ومنذ تأسيس الكيان كانت تقول لا للتعليم الرسمي لأنه يعني تعليم المسلمين.

أضاف: التعليم الرسمي هو ثمرة مسيرة نضالية استطاعت انتزاع حق التعليم للجميع، وعندما تقول بتوسع التعليم الرسمي خلال الفترة الشهابية، إلا بعكس ذلك فترة التسوية بين الناصرية والأميركان، وكان فؤاد شهاب نتاج هذه التسوية.

الخطط الاستراتيجية

سألته عن الخطط الاستراتيجية التي وضعت عام 2007 التفت لي وسألني: ألا تريد كوباً من الشاي بعد القهوة؟ وأردف: بعد عام 2007 خضعت خطة كل وزير للتمويل الخارجي وكانت تتغير الخطط مع تغير الوزير والخطة الأصلية بقيت حبراً على ورق. بعد توقف الحرب الأهلية أوقفوا دور المعلمين وكلية التربية وأقروا المرسوم 112 الذي أتاح سياسة التعاقد لتجديد البنى السياسية الطائفية وإعادة إنتاج علاقات سياسية.

أما المناهج فجددت على عجل وبناء لطلب الأميركان لإعطاء صورة جديدة وحديثة عن العلوم الإنسانية تتماشى مع العصر الأميركي لكنها بقيت عاجزة عن مواكبة التطور العلمي.

توزيع المدارس

سحب نفساً عميقاً من الأركيلة وتابع قائلاً: عام 2007 قالوا بتجميع المدارس فإذا بتوزيع للمدارس يراعي التغير الديموغرافي، صار التلامذة من بيئة واحدة. التلميذ لا يعرف تلميذاً من البيئة الأخرى، وتوزيع الأساتذة لا يخضع للحاجة والإمكانية بل حسب السلطة المناطقية الموجودة.

أتوا بالمتعاقدين على حساب الأستاذ المتفرغ، صار معظم أساتذة الملاك خارج إطار التعليم، وتحول مدير المدرسة المعين من الزعيم الطائفي إلى صاحب السلطة والقرار، له الحق بتجاوز نظام التعليم من خلال فرض وجهة نظر خاصة ذات منحى سياسي. وفي حال حاول الأستاذ النقاش، وكان خارج الحماية السياسية فينقل بقرار من الوزارة وبتوافق من السلطات. يضيع النظام والحق ويبقى نظام المحاصصة متفقاً على الأستاذ المستقل، يضربون استقلالية المهنة، تنهز مشاعر الأستاذ تجاه التعليم، تنكسر قيمة الأستاذ أمام قرار السلطة، تضرب القيم المتعلقة بالمهنة. يأتي قرار نقل الأستاذ، ينقل إلى المكان الآخر وخبرية سلبية مع تحذير منه. قبل وصوله يعرف الأساتذة هذه الحقيقة لكنهم منقسمون بسبب الانتماء والاستزلام الطائفي.

سياسة التعاقد

وحول سياسة التعاقد، رأى الصديق “أنها مجال سياسي بامتياز لقد احتل السياسي موقع الإداري لكسب الولاء من جهة، أو لترسيخ الولاء من جهة أخرى، إنهم من جهة يقولون للأساتذة في الملاك: إننا نقدم لكم ساعات راحة إضافية وأحياناً يبعدونهم عن التعليم ويكلفونهم بأعمال إدارية غير مهمة وغير مطلوبة وعند تقاعدهم يستعاض عنهم بمتعاقدين.

شؤون جنوبية

صمت برهة، ثم أكمل حديثه: عندما تجتمع بسياسيين من عندنا يوجهون أصابع الاتهام للمدارس بالفساد، وعدم المسؤولية، ويشيدون بالتعليم الخاص الطائفي. وإذا كان التعليم الثانوي أفضل من المراحل التي تسبقه فيعود ذلك لوجود نخبة من الأساتذة المتمرسين الذين أتوا إليه في المرحلة الذهبية من النضال المطلبي.

وهذا فتح الباب أمام سؤال عن الهيئات النقابية للمعلمين. أسرع الصديق بالإجابة: بعد الطائف جرى الاستيلاء على كل الهيئات النقابية العامة في البلد من قبل المحاصصة السياسية، وإذ بروابط المعلمين تعود إلى الطوائف، وتبرز الهوية الحزبية الطائفية للأساتذة. ويتحول التلامذة إلى أشخاص بدون هوية وطنية وبدون قضية.

اقرأ أيضاً: حسن عزالدين: السلطة منحازة للتعليم الخاص على حساب التعليم الرسمي

المعاهد الفنية

أقول له: طالت السهرة وعلي التحرك وإذا به يمسك بيدي ويقول: بقيت نقطة وحيدة ويجب ان تسمعها: ألم تراقب إنشاء وتوسع المعاهد الفنية التي تديرها كادرات الأحزاب؟ لن أريد أن أدخل إلى موضوع الجامعات الخاصة، إذ لكل زعيم جامعة. دعنا نبقى عند المعاهد. ترى النتائج المعلنة: نجاح 100% في كل مكان. الفضيحة هي تسريب الأسئلة وتنظيم دورات خاصة للتلاميذ على الأسئلة وكلفة الدورة تغطي ما يعطي للأساتذة وما يبقى تحتفظ إدارة المعهد به وهو مبلغ طائل.

التسرب المدرسي

أما عن التسرب المدرسي فله علاقة بالبيئة الاجتماعية وبالأوضاع الاقتصادية. هنا في صيدا القديمة أولاد الصيادين يبقون حتى الخامس ابتدائي ثم ينتقلون للعمل مع أبائهم، وفي مناطق أخرى يبقون حتى شهادة البريفيه التي تتيح لهم دخول قوى الأمن والجيش. ومن ينهي المرحلة الثانوية يتوجه إلى سوق الجامعات التي تتوزعها الطوائف السياسية. والتي تحمل مساراً تربوياً يؤدي إلى الهجرة. هذا الاستثمار يؤدي إلى هذه النتائج.

الساعة تشير إلى الواحدة ليلاً وما زال يريد التحدث أكثر، اعتذرت منه، رد قائلاً: أتمنى لك أحلاماً سعيدة، أتمنى أن تحلم بوطن.

(هذه المادة نشرت في مجلة “شؤون جنوبية” العدد 167 ربيع 2018)

السابق
القوى الأمنية تغلق مداخل ومخارج قصر العدل في طرابلس
التالي
وليد حشيشو: وزارة التربية عاجزة بسبب التدخلات السياسية