الجميع ينتصر في «مدرسة الهواة»

لمن يؤكد المنتصر على انتصاره؟ إلى من "يهديه"؟

في برنامج تلفزيوني اخترعه الفرنسيون للأطفال، اسمه “مدرسة الهواة”، راجَ طوال ثمانينيات القرن الماضي: يأتون بمغنٍ مشهور، يكون ضيف كل حلقة، ومعه ستة أو سبعة “متبارين” أطفال، أعمارهم بين ثلاث وسبع أو ثماني سنوات. ومقدِّم ظريف، اسمه جاك مارتين، يناغشهم، يداعبهم، يطرح عليهم أسئلةً تحمل إجاباتها البريئة كثيرا من الضحك. ويدعو كل واحد منهم إلى غناء ما اختاره من أغاني الفنان الضيف، ويتركه ليغنيها، بحسب استعداده الخاص، وبمستوياتٍ متفاوتةٍ من الأداء. ثم يطلب من الأطفال الباقين أن يرفعوا العلامة التي يرون أن زميلهم يستحقها. وتكون هذه العلامة طفوليةً إلى حدّ بعيد، تعتمد على المزاج الخاص بكل طفل، وتتراوح بين الصفر على عشرة، والعشرة على عشرة.. ليضيفوا إلى طرافة الموقف عبثية محبَّبة. ثم في نهاية الحلقة، يطلب جاك مارتين من الحَكَم، “العم مايونيز”، أن يقوم بالحسابات الدقيقة التي توصَّل إليها كل طفل، ويفترض أنها تصدر نتيجة “المباراة”. فيضيع “العم مايونيز” في هذه الحسابات، لا يعود يعرف تماماً كيف يقوم بها؛ يجمع، يطرح، يقسِّم، يضْرب.. من دون التوصل إلى النتيجة التي يعتقدها صحيحة. وبعد تشويقٍ لبضع دقائق، يتخلّص “العم مايونيز” من هذا الحرَج الرياضي، بأن يعلن “فوز الجميع”، وبأن كل واحدٍ من أولئك الأطفال “هو الأول”(!).

إقرأ ايضا: «شيعة السفارة» وفنون الرجم الممانِع

هكذا بالضبط تصرّف أطفالنا الفائزون في الانتخابات التشريعية أخيرا في لبنان. ما أن توقّف “مهما قسَّمتَ وجمعتَ وطرحتَ.. لن يكون واحد زائد واحد يساوي اثنين” الاقتراع، ورنّ جرس الإغلاق، حتى اعتمرت صدورَهم سكراتُ نصر مبين. المعتادون على الانتصارات، المحتكرون لها طوال العقود الماضية، كانوا أول المنْتشين. هم الأقوى، الأكثر عدداً، القابضون على جِمار الشرق الأوسط. فكانت “غزوة الموتوسيكلات” إلى الأحياء البيروتية التي تغري بالثأر والتشفِّي. وشعاراتهم المذهبية وألوانهم الصفراء، وحزبهم “المقاوم” على امتداد هذا الشرق. كله انتصار بانتصار..

كان هذا أول غيث الفوز النيابي الذي أحرزته الكتلة الصلبة لأرباب الممانعة. ثم كرَّت السبْحة؛ في اليوم الواحد كنتَ تشهد كذا مهرجان جماهيري، مؤتمرا صحافيا، خطابا، تصريحا، مواكب سيّارة، أعلاما، أهازيج، وصخبا.. لكل حزب، لكل كتلة، لكل تجمع، بل أحيانا لفردٍ واحدٍ فاز مصادفة، بعشرات الأصوات وحسب، كما حصل مع فائزين كُثر. كله ينضح برسالةٍ واحدة. لقد انتصرنا في هذه الانتخابات. أي كنا على حق.. وكأنهم مهما نشزوا بالأغنية، لا يمكن اعتبارهم إلا حاصلين على العشرة على عشرة التي يستحقونها، بحكم صغر عقلهم. كأنهم لم يستبسلوا في سبيل الفوز. كأنهم بفوزهم ملكوا الحقيقة الأبدية. كأن الانتخابات كانت ديموقراطيةً أصلاً، نزيهةً أصلاً، وطنيةً أصلاً. خرجوا من هذه الانتخابات مثل أطفال “مدرسة الهواة”. كل واحد منهم هو “الأول”. من دون براءة الطفولة ولا ظرفها، ولكن بإحساس عال باللعب، بانعدام المسؤولية المترتِّبة على هذا الفوز العظيم.

لمن يؤكد المنتصر على انتصاره؟ إلى من “يهديه”؟ إلى الذين انتخبوه طبعاً. فقط إليهم. الباقون معنيون بمرشح آخر، بالذي انتخبوه، بدورهم. وجلّهم من أبناء مذهبه، أو من المذهب الذي جُيِّر له. هكذا يتصوّرون طبعاً. أو يريدون لنا أن نتصوَّر. لكل طائفةٍ، لكل مذهبٍ، منتصره، وأحيانا منتصران أو ثلاثة، أو حتى أربعة.. مع بدايات تشكل “الكتل” صاحبة الانتصار الأكبر داخل البرلمان.
وهذا ما يجعل العمليات الحسابية في غاية التعقيد. مهما قسَّمتَ وجمعتَ وطرحتَ.. لن يكون واحد زائد واحد يساوي اثنين. إنما قد يساوي أربعين، ولا حاجة إلى الرياضيات في هذه الحالة. إنما حاجة إلى التخلّص من العقلانيات الحسابية، والدخول في كهوف المعرفة السياسية وممارساتها.

انظر مثلاً إلى الانتخابات البرلمانية عامي 2005 و2009، حيث كانت الغلَبة البرلمانية، “لمن يؤكد المنتصر على انتصاره؟ إلى من “يهديه”؟ إلى الذين انتخبوه طبعاً. فقط إليهم؟” بالحساب الدقيق، لمعسكر “الدولة” ضد “الممانعة”. هل منعت هذه الغلَبة الديموقراطية، محور الممانعة من الاستفراد بخوض الحروب في لبنان وفي سورية، وربما أيضاً في اليمن والعراق؟ أي في اتخاذ أخطر القرارات الأمنية؟ طبعاً لا. بل في ظل هذه الغلَبة الديموقراطية، سجَّل هذا المحور انتصارات غير ديموقراطيةٍ، مكّنته من فرض كل ما نعرفه، بدءا بقانون الانتخاب نفسه الذي يؤمّن له العدد الأكبر من الأصوات؛ وهو المنتصر حسابياً هنا. ويمكن أن يكون هذا الانتصار الحسابي غير مقترنٍ بمزيد من الانتصارات الميدانية.. يمكن بالعكس: أن لا تعني شيئاً هذه الانتصارات، في حال انقلبت التحالفات، وتشكَّلت كتلاً برلمانيةً مدعومةً خارجياً، كما هي مدعومة كل المحاور. فتعاد الحسابات مرة أخرى: واحد زائد واحد، يساوي خمسين.. أنتَ هنا في الشرق. والحكم ليس حكماً. والأرقام، حتى المزوَّرة، لا تعني فقط الشكليات، لمحبي العظام الرميم، أو المستشرقين الباحثين عن غرائب قصصنا.

إقرأ أيضا: هل تُحرِّرنا إيران؟ أو إسرائيل..؟

وإذا لاحظتَ حجم الحب وحجم الكراهية المتلاصقين، في خطابات الانتصارات هذه، والدبْكة الدائرة في وسطهما، يمكنكَ أن تتخيّل شحناً عاطفياً ساذجاً، يخاطب أطفالاً قُصَّرا، لا راشدين يسألون عن فسادهم، يبحثون عن لقمة عيشهم، وقف هجرة أولادهم، تنقية هوائهم من المازوت.. كأن المسرح انقلب عن ثمانينيات القرن الماضي. كان يصعد الأطفال إلى الخشبة، ويستمع إليهم الكبار. أما الآن، فيصعد الكبير ويستمع إليه الأطفال. ويصفق هؤلاء، كلّما لاطفهم، داعبهم، كلما غالظ بعصاه منتصراً آخر، لا يختلف دربه، ولا نهجه. والفرق، في النهاية، أن خشبة الأطفال تبعث على المرح، فيما خشبة الراشدين هذه تبعث على الملَل، بعد الضرَر.

السابق
إقفال أقسام في مستشفى نبيه بريّ الحكومي
التالي
عقوبات أميركية وعربية جديدة على «حزب الله»: ونصرالله في رأس القائمة