سينما ستارز في صيدا القديمة

كنت أزور رفيقي في الثانوية علي النويري في بيته في صيدا القديمة. حيّ او أحياء يحملها هواء البحر برائحة السمك وسواعد الصيادين من قلعتها الصليبية المبنية في القرن الثالث عشر على معبد الإله ملكارت الفينيقي القديم ومينائها الوافر بقوارب الصيادين و شباكهم المنسولة من ملح وتعب السنين أمينين لرسالة ونضال الشهيد معروف سعد الذي حمل همومهم على رمش عينيه مردّدين "صيدا كِلّا لمعروف".

من واجهة البحر وجامعه الجميل الذي كان مدرسة لتعليم القرآن أساساً وساحة الصّيادين وخان الافرنج الى الازقّة والحوانيت ومعمل الصّابون، من باب السّراي الى الجامع العمري مساجد مشيّدة تحتضن حدائق مطرّزة تتساوى في خطٍّ مستقيم في أروقة الدروب الحجرية الضيّقة كمسجد الكيخيا ومسجد بطاح ومسجد ابي نخلة..
كانت التعرجات تقودنا الى الجانب الآخر من الحي القريب من الجامع العمري وساحته التي بقيت بمقهاها وحوانيتها ذاكرة لماضٍ جميل.
بالقرب من حي اليهود كان يسكن رفيقي علي. كان يحمل نارجيلته وينزل الى المصطبة ونجلس على كراسٍ خشبية صغيرة ونتلذّذ طعم الشّاي من المقهى المجاور..
وذات يوم دعانا علي مع انطوان وثائر لحضور فيلمين دفعة واحدة في سينما أبو محمود التي أطلقنا عليها سينما ستارز لاحقاً.
أبو محمود رجلٌ كادح، يعمل دؤوبا بالحرف اليدوية ومبدعٌ فيها ليطعم عائلته الكريمة المؤلفة من سبعة أولاد ويملك تحت منزله القديم غرفة صغيرة أهّلها على ذوقه وحولها الى دار سينما معروفة بسينما أبو محمود.
تسع “القاعة” لثلاثة عشر كرسي خشبي وحائطها الأبيض المقابل لبابها الواسع هو الشّاشة المثيرة.
وتحجب بابها برداية حمراء كناية عن ستارة تحجب الضّوء الخارجي.
كان علي وشباب الحارة يشترطون على أبو محمود ويتفقون معه سلفاً انتقاء فيلم من الأفلام المتوفّرة في ” مكتبته وأرشيفه” قديمة وحديثة، مصرية وأجنبية..
وعند الاتفاق على فيلم او اثنين ( دفعة واحدة ) كنّا نصطفّ لشراء التذاكر ونستعجل ابو محمود بحماسة. فيطل أبو محمود مع أحد ابنائه لتوزيع التذاكر، التي كانت عبارة عن أوراق صغيرة مكعبة كتب عليها اليوم والتاريخ..
كان أبو محمود يوزّع التذاكر مقابل عشرة قروش وبعض من اولاد الحي كانو يدفعون النصف وبعض مشاغب يحارجه على السّعر او يستدين منه ممتعظاً وكان بحاجبيه العريضين وصوته يملي قراراته بتسليم تذكرة او امتناعه، لان السينما كما كان يردِّد هي “باب رزقٍ” انعمه الله بها يوم عاد أخوه من مصر حاملاً هذه الآلة العجيبة التي تدور فيها اسطوانات وأشرطة رقيقة وتبث نوراً هائلا يملي الحائط بصور و أفلام.
وكان ابنه يقف على باب السينما ينظم الدخول باستلام التذكرة وتمزيقها.
لا نافذة ولا فتحة تهوية في سينما ستارز. كان الفيلم المصري المعلوك من سنين في دورانه يظهر صوراً غير واضحة، مغبشة، والصوت غير مفهوم احيانا يتعالى فجأة ويذوب بعد حين.. كنّا في مشاهدتنا للفيلم نفتش بين الشاشة والصوت عن الحدث ونحلله لنستنتج حقيقته ان أفلحنا.. فكانت السينما قاعة امتحان لقدراتنا على السمع والرؤية والتحليل والاستيعاب والاستنتاج والفرحة تعم قلوبنا ملاحقين البطل منذ البداية حتى النهاية.
لا تحجب البرداية الحمراء النّور كليّاً كما لا تحجب ضوضاء الحي والباعة والأولاد والحياة. فكنّا بين الفيلم وما يحدث خارجاً بآنٍ. خاصة وان مرّت سيارة في الزّقاق وما تحدثه من ضجيج مزعج وشجار سائقها والمارّة لأحقيّة المرور..
مع بداية الفيلم كان ابو محمود يدخل حاملاً سلّة من القش كبيرة فيها ما يحلو من الترمس والفول والفستق و البوشار و ألواح البوظة والكندادراي و الجلّول والبنجيس ( كما يسميه أبو محمود) – الbonjus-بشكل الهرم.. والسكاكر وغيرها..وكان يوزع تنكة حليب نيدو صغيرة فارغة لكي نرمي فيها ” زبالتنا”.
ثم يجلس على كرسيه في الخارج حارساً القاعة.
وفي أوقات الحر، كنّا نصرخ له:” أبو محمود شَوّبِت!” والعرق يتصببنا.. وبعد امتعاظات وأصوات متعالية، يدخل أبو محمود مهموماً حاملاً سطلاً من الماء وصارخاً:” ارفعوا إجرَيكم”، فنرفع أرجلنا ويلقي بسطل الماء على الأرض لتبريد القاعة.
هكذا مع احلال قاعات السينما المعاصرة، غرانادا وغيرها، أطلقنا على سينما أبو محمود سينما ستارز.
كلّما جئت لبنان، عدت الى صيدا القديمة لأحتسي الشّاي مع أخي علي في المقهى الصغير مقابل الجامع العمري وأجول أزقتها وحوانيتها وجمال بيوتها مفتشاً عن ابو محمود، فالجيل الجديد لا يعرف ابو محمود وسينما ستارز.

كنت أزور رفيقي في الثانوية علي النويري في بيته في صيدا القديمة. حيّ او أحياء يحملها هواء البحر برائحة السمك وسواعد الصيادين من قلعتها الصليبية المبنية في القرن الثالث عشر على معبد الإله ملكارت الفينيقي القديم ومينائها الوافر بقوارب الصيادين و شباكهم المنسولة من ملح وتعب السنين أمينين لرسالة ونضال الشهيد معروف سعد الذي حمل همومهم على رمش عينيه مردّدين “صيدا كِلّا لمعروف”.
من واجهة البحر وجامعه الجميل الذي كان مدرسة لتعليم القرآن أساساً وساحة الصّيادين وخان الافرنج الى الازقّة والحوانيت ومعمل الصّابون، من باب السّراي الى الجامع العمري مساجد مشيّدة تحتضن حدائق مطرّزة تتساوى في خطٍّ مستقيم في أروقة الدروب الحجرية الضيّقة كمسجد الكيخيا ومسجد بطاح ومسجد ابي نخلة..
كانت التعرجات تقودنا الى الجانب الآخر من الحي القريب من الجامع العمري وساحته التي بقيت بمقهاها وحوانيتها ذاكرة لماضٍ جميل.
بالقرب من حي اليهود كان يسكن رفيقي علي. كان يحمل نارجيلته وينزل الى المصطبة ونجلس على كراسٍ خشبية صغيرة ونتلذّذ طعم الشّاي من المقهى المجاور..
وذات يوم دعانا علي مع انطوان وثائر لحضور فيلمين دفعة واحدة في سينما أبو محمود التي أطلقنا عليها سينما ستارز لاحقاً.
أبو محمود رجلٌ كادح، يعمل دؤوبا بالحرف اليدوية ومبدعٌ فيها ليطعم عائلته الكريمة المؤلفة من سبعة أولاد ويملك تحت منزله القديم غرفة صغيرة أهّلها على ذوقه وحولها الى دار سينما معروفة بسينما أبو محمود.
تسع “القاعة” لثلاثة عشر كرسي خشبي وحائطها الأبيض المقابل لبابها الواسع هو الشّاشة المثيرة.
وتحجب بابها برداية حمراء كناية عن ستارة تحجب الضّوء الخارجي.

إقرأ أيضاً: تعرفوّا بالصور على «التصنيفات السينمائية»

كان علي وشباب الحارة يشترطون على أبو محمود ويتفقون معه سلفاً انتقاء فيلم من الأفلام المتوفّرة في ” مكتبته وأرشيفه” قديمة وحديثة، مصرية وأجنبية..
وعند الاتفاق على فيلم او اثنين (دفعة واحدة) كنّا نصطفّ لشراء التذاكر ونستعجل ابو محمود بحماسة. فيطل أبو محمود مع أحد ابنائه لتوزيع التذاكر، التي كانت عبارة عن أوراق صغيرة مكعبة كتب عليها اليوم والتاريخ..
كان أبو محمود يوزّع التذاكر مقابل عشرة قروش وبعض من اولاد الحي كانو يدفعون النصف وبعض مشاغب يحارجه على السّعر او يستدين منه ممتعظاً وكان بحاجبيه العريضين وصوته يملي قراراته بتسليم تذكرة او امتناعه، لان السينما كما كان يردِّد هي “باب رزقٍ” انعمه الله بها يوم عاد أخوه من مصر حاملاً هذه الآلة العجيبة التي تدور فيها اسطوانات وأشرطة رقيقة وتبث نوراً هائلا يملي الحائط بصور و أفلام.
وكان ابنه يقف على باب السينما ينظم الدخول باستلام التذكرة وتمزيقها.
لا نافذة ولا فتحة تهوية في سينما ستارز. كان الفيلم المصري المعلوك من سنين في دورانه يظهر صوراً غير واضحة، مغبشة، والصوت غير مفهوم احيانا يتعالى فجأة ويذوب بعد حين.. كنّا في مشاهدتنا للفيلم نفتش بين الشاشة والصوت عن الحدث ونحلله لنستنتج حقيقته ان أفلحنا.. فكانت السينما قاعة امتحان لقدراتنا على السمع والرؤية والتحليل والاستيعاب والاستنتاج والفرحة تعم قلوبنا ملاحقين البطل منذ البداية حتى النهاية.

إقرأ أيضاً: إسطنبولي يُعيد فتح دور السينما المقفلة في لبنان

لا تحجب البرداية الحمراء النّور كليّاً كما لا تحجب ضوضاء الحي والباعة والأولاد والحياة. فكنّا بين الفيلم وما يحدث خارجاً بآنٍ. خاصة وان مرّت سيارة في الزّقاق وما تحدثه من ضجيج مزعج وشجار سائقها والمارّة لأحقيّة المرور..
مع بداية الفيلم كان ابو محمود يدخل حاملاً سلّة من القش كبيرة فيها ما يحلو من الترمس والفول والفستق و البوشار و ألواح البوظة والكندادراي و الجلّول والبنجيس ( كما يسميه أبو محمود) – الbonjus-بشكل الهرم.. والسكاكر وغيرها..وكان يوزع تنكة حليب نيدو صغيرة فارغة لكي نرمي فيها ” زبالتنا”.
ثم يجلس على كرسيه في الخارج حارساً القاعة.
وفي أوقات الحر، كنّا نصرخ له:” أبو محمود شَوّبِت!” والعرق يتصببنا.. وبعد امتعاظات وأصوات متعالية، يدخل أبو محمود مهموماً حاملاً سطلاً من الماء وصارخاً:” ارفعوا إجرَيكم”، فنرفع أرجلنا ويلقي بسطل الماء على الأرض لتبريد القاعة.
هكذا مع احلال قاعات السينما المعاصرة، غرانادا وغيرها، أطلقنا على سينما أبو محمود سينما ستارز.
كلّما جئت لبنان، عدت الى صيدا القديمة لأحتسي الشّاي مع أخي علي في المقهى الصغير مقابل الجامع العمري وأجول أزقتها وحوانيتها وجمال بيوتها مفتشاً عن ابو محمود، فالجيل الجديد لا يعرف ابو محمود وسينما ستارز.

السابق
السفارة الاميركية تهنئ اللبنانيين بالانتخابات النيابية
التالي
الخزانة الأمريكية تمنح الشركات الأوروبية مهلة محددة لتجميد نشاطاتها الاقتصادية في ​إيران