لا فرق بين المسيحي والمسلم إلا في أكل البزاق

عبد الله ابراهيم النجل الأصغر سناً للمرحوم العلامة السيد علي مهدي ابراهيم أحد كبار علماء الدين المسلمين في لبنان والذي بقي على مدى نصف قرن من عمرنا يفيض حيوية ويعلم الناس ديناً وإيماناً.. عبد الله قال لي: سألني مرة رفيقي في المدرسة الابتدائية ما الفرق بين المسلم والمسيحي؟ على أساس أني من أسرة دينية عريقة فلا بد أن أعرف الفرق أكثر منه، بسبب سماعي من أبي، فقلت لرفيقي: إن الفرق هو أن المسيحي يأكل البزاق ونحن لا نأكله. بعد أربعين سنة، وفي نهاية موسم الانتخابات النيابية في لبنان جاء رفيق عبد الله القديم إلى رفيقه ضاحكاً منتصراً وقال: لقد غششتني.. بل نبّهتني إلى ان أبناء رجال الدين لا علم لهم بدينهم. وجرى بينهما حديث طويل قال في نهايته الرفيق لعبد الله ما مضمونه بأن النقص في معلوماته عن الفرق بين المسلم والمسيحي إنما سببه أن والده رحمه الله لم يكن مضطراً، لأنه لم يكن متعصباً، إلى أن يشرح لأولاده أو لغيرهم الفرق بين المسيحي والمسلم، وأنه كان مشغولاً بأمور أخرى بالوطن والأمة والحرية وفلسطين والعدالة وأضرابها، ومن هنا فإن رفيق عبد الله يعذره لأنه لم يسمع من أبيه علماً في هذا المجال الحيوي من حياتنا، فاضطر عبد الله لأن يصور الفرق كما يفهمه الطفل البريء ليس إلا.. وتساءل رفيق عبد الله عما إذا كان عبد الله ما زال على براءته واعتقاده بحصرية الفرق في البزاق؟ فرد عبد الله نافياً مؤكداً أن معرفته بالفروق الدينية قد توسعت، ولكنه ما يزال يعتبر أن الفرق الحاسم إنما هو منحصر في أكل البزاق، وحتى أكل لحم الخنزير ليس فرقاً شاملاً لكل المسلمين، أما البزاق فهو شامل، فلا أحد من المسلمين يأكل بزاقاً، وهناك عدد من المسلمين يأكلون لحم الخنزير كما أن هناك عدداً من المسيحيين لا يأكلون لحم الخنزير..

اقرأ أيضاً: العيد.. تذكار الجميل واستشراف الأجمل

أما المشروبات الروحية فهي مشتركة وإن كانت مساحة المسلمين الذين يمتنعون عن شربها أوسع من مساحة المسيحيين الذين لا يشربونها. وإذا ما انتقلنا إلى مسألة المرأة وسترها لبدنها فإن مساحة المكشوفات من المسيحيات هي أوسع من مساحتهن لدى المسلمات وإن كان عدد المسلمات اللواتي يكشفن تباعاً هو في ازدياد إلى حد احتمال التساوي عدداً بين الطرفين، خصوصاً إذ ما أعقبت فترة الهوس الديني السائد، وهو غير الدين أو التديّن، فترة انفلات وزندقة كما حصل في أكثر من دورة من دورات التاريخ القديم والحديث، هذا علماً بأن العودة إلى الدين، مظهراً على الأقل، لم تقتصر على المسلمين وحدهم، فهناك عودة صحية ومرضية إلى الدين المسيحي في كل أصقاع الدنيا، تماماً كما هي عند المسلمين، ومن أهم الظواهر التي تجسد ذلك هو الأضعاف المضاعفة من الشبان المسيحيين في لبنان مثلاً التي دخلت وتدخل سلك الرهبنة، إناثاً وذكوراً، إلى الإقبال على الكنائس والمناسبات، ما يوازي سلوك المسلمين، وإن كانت مساجدالمسلمين تكاد تنفتح أبوابها الخلفية على مصراعيها للمغادرين إلى دينهم خارج الجماعات السياسية بسبب ارتفاع درجة التسييس الديني التي بلغت ذروتها في الانتخابات الأخيرة، كفعل وردّ فعل، من دون الدخول في دورة البيضة والدجاجة، فنحن أهل وطن واحد ولكنا ننتمي إلى التوحيد، واستجاباتنا ظاهرها ديني وباطنها سياسي.. ومع بلوغ الذروة يصحّ لنا أن نتوقع الانحدار.. خاصة خلال أربع سنوات قادمة من حياة نيابية قامت على تبادل التعصيب الديني، وهي سوف تكون ملأى بخيبات الأمل لدى الجميع، لأنهم، وبسبب الفشل السياسي، الذي قد لا يكون تماماً، سوف يكتشفون أنهم مواطنون أولاً وأنهم مخدوعون، وأن كل واحد منهم هو شرط لحياة الآخر في دينه ودنياه وشرط لمصالحه المشروعة، أما المصالح غير المشروعة فشرطها الإسلامي ضد المسيحي وشرطها المسيحي ضد الإسلامي، غير أنها محصورة في الطبقة السياسية وأهل السلطة لا الدولة، الذين يتقاتلون بنا عليها، وفي النهاية يتبادلون الأرباح والأنخاب، ونتبادل الخسائر، فيحيل كل طرف منهم طائفته على الطائفة الأخرى التي أكلت وتريد أن تأكل ما تبقى منه.
وليت أن المسألة منحصرة في هذه القسمة الثنائية.. فعليّ، حبيبي الذي يحبني أمه شيعية وأبوه سني رحب الوجه والصدر، ترك ولده ينمو كما يشاء، فمال الطفل إلى التشيع العاطفي، تشيع أمه التي لا تعاني من داء العصبية، وأصبح مغرماً بالجدل مع أبيه يومياً، وتعلق بي.. وأخيراً أخبرتني أمه وأبوه أنه اكتشف سنيته وقرر ممارستها وطبق ذلك علي فقرر مقاطعتي والكف عن محبتي وانتقل جدله من أبيه إلى أمه وخالاته..
أما حفيدتي التي لم تسمع شيئاً يعكر صفوها الوحدوي التوحيدي، فإنها لاحظت تغيراً في سلوك الأولاد في صفها، فاختارت أن تعلن أنها عونية ضد القوات لأن جوّ الصف هكذا، أما أختها الكبرى فلم تجد بداً من إعلان تأييدها لسليمان فرنجية، وعندما مازحها صديق بأن جدها صديق سمير فرنجية قالت: إن وضعها في المدرسة يملي عليها ضرورات خاصة.. ويوماً.. وعلناً، وبصوت عالٍ قالت الحفيدة الصغرى للكبرى وهي صاعدة سلم الحافلة المدرسية: أختي.. أختي.. هناك زميلة منا، أي مسلمة، ثم فهمت الأختان لاحقاً أنها سنية فاتفقتا على أن شيئاً أفضل من لا شيء!
واستطراداً أروي أني كنت في منزل أحد الأتقياء من علماء الشيعة وكان يشكو لي عصبية ولده الأكبر الذي يحبني ويطلب مني أبوه أن أحاوره لكي يلين.. وعندما خرجت من المنزل وجدت أربعة أطفال كبيرهم في السادسة أمام المنزل ومنهم اثنان من أولاد صديقي قلت لهم: نجمة أو أنصار؟ فقالوا جميعاً : نجمة، قلت ولماذا أنتم ضد الأنصار؟ قالوا : لأنهم سنة، قلت: وما الفرق ؟ قالوا: السنة لا يحبون علياً، وبذلت جهداً لأثبت لهم أن السنة يحبون علياً، وبدا لي أنهم اقتنعوا ظاهرياً أو عجزوا عن الجدل، فانبرى اثنان، هما غير ولدَي صديقي العالم، وقالا : ولكن السنة لا يعبدون علياً، قلت: وهل أنتما وأبوكما تعبدان علياً ؟ قالا : نعم، وبحسم. فحككت أنفي ومشيت؛ لأن عيونهما احمرت عليّ.
هكذا إذن، عادت دولتنا الحديثة وطبقتنا السياسية الحديثة من خريجي الجامعات الحديثة إلىإنتاج عصبيتنا، كل ذلك، من أجل الطائفة مرة، ومن أجل المنطقة مرة، ومن أجل لبنان دائماً، لبنان الواحد الديمقراطي الوفاقي الناهض.. لبنان الرسالة. وهنيئاً لكل السياسيين، المروجين للشر أو الساكتين عن الحق رهباً أو رغباً، وهنيئاً للأصدقاء والزملاء من رجال الدين من كل الطوائف والمذاهب، هنيئاً لهم هذه الحال وهذه العيشة وهذا المآل الحافل بالعدل والتوحيد والمحبة والتجاوز والاستيعاب والتسامح وقبول الآخر والحب لله ولعياله.. هنيئاً لهم هذا الحضور الرائع في هذه الكراهية المتنامية، والتي لن تترك بيتاً إلا وتدخله، لأننا نملك أن نطلق سراحها ولكننا لا نملك أن نمنع شمولها كل شيء، كل دين وكل مذهب وكل قرية أو مدينة أو حي أو قضاء أو محافظة، أما أنا فما زلت على رأي عبد الله إبراهيم بأن الفرق بين المسيحي والمسلم هو أكل البزاق.

اقرأ أيضاً: رسالة إلى الحجر والبشر

لأن المتطرفين موجودون في الطرفين، و”الحرامية” والقتلة والكذابين والمراوغين والانتهازيين والفاسدين والمفسدين.. والصالحين والمصلحين موجودون أيضاً في الطرفين والفرق في أكل البزاق فقط.
لأنهم يأكلون كل شيء معاً من الدين إلى المتدينين وحتى الاستقلال والسيادة إلى الحرية والديمقراطية، ومن الطائفة إلى المذهب، ومن الوطن إلى المواطن ومن الدولة إلى المجتمع ومن لحم جورج وعمر وفندي ومحمد علي إلى لحم الخنزير.. وعذراً لقلة فصاحتي وبلاغتي وافتقار مقالتي إلى الموضوعية والمنهجية والتماسك، ولماذا لا أكون وتكون مقالتي هكذا؟ وأنا لا أسمع إلا رغاءً وكلاماً فارغاً سطحياً مسطحاً، ولا أرى إلا هيجاناً وذاتيات متورمة وأهواء فاسدة وهلهلة وضعضعة؟ إني إدعو عبد الله إبراهيم إلى التشبث بجهله وأنصح صديقه الذي اكتشف الفوارق الحقيقية(!!) والمفتعلة والمضخمة بين الناس، بين المواطنين، أن يجري عملية غسل معدة أو دماغ للخلاص من هذه السموم ويحل عن الدين، هل بلغت؟ هل من يوافق معي على أن الفرق الطبيعي والضروري بين الإسلام والمسيحية هو غير الفرق الطبيعي والضروري بين المسلم والمسيحي؟

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
اسعار النفط ترتفع عالميا واللبنانيون قلقون من ارتفاع البنزين
التالي
بيان مؤتمر بروكسل يتسبب بـ«اشتباك لبناني – دولي» حول النازحين