«مُفْرَدٌ بصيغة الجمع» لأدونيس على مشرحة «جرحُ المعنى» لخالدة سعيد

كتاب جرح المعنى
صدر للناقدة والكاتبة خالدة سعيد، عملٌ نقديٌّ جديد (عن "دار الساقي" في بيروت وفي طبعة أولى 2018) تحت عنوان: "جرح المعنى" وهذا الكتاب، هو، قراءة في كتاب "مفرد بصيغة الجمع" لأدونيس.

والناقدة تجرح معنى الشعرية الأدونيسية هنا، في واحدة من المراحل التأسيسية لهذه الشعرية المشرَّعة على رياح الحداثة المستقبلية، وجاء ذلك عبر ستة محاور رئيسة، مسبوقة بـ”مدخل” ومنتهية بـ”خاتمة”؛ كما يضم هذا الكتاب ملحقين اثنين: الأول يحتوي تقديم خالدة سعيد لديوان أدونيس “أغاني مهيار الدمشقيّ”؛ والثاني يحتوي تقديمها لديوانه “كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل”.

ومن الإشارات والتوضيحات التي يحفل بها مدخل الكتاب، نقتطف التالي: هذا النص خلاصة قراءات متوالية لكتاب مفرد بصيغة الجمع لأدونيس؛ قراءات تجمّعت على امتداد سنوات. وأخذت هذه الحصيلة تنمو وتتطوّر. ولعلّها ما كانت لتتوقف الآن لولا حكم الزمن. فما أدهشني في “جماليات” هذا الكتاب، خاصة، هو تمرّد الدلالة على الحصر بسحر مجاز متجاوز متمرّد، وتعدّد للمستويات وتداخلها وانفتاحها وتناميها، بين الذاتي النفسي الخيالي والجسديّ والتواريخ الخاصة والعامة، الحضارية واللغوية، والفكرية والسياسية؛ وهي جميعها تتلاقى، تتداخل تتشابك، كما تتعارض أو تتجاور تجاوراً كاشفاً وتتقدّم بلغة ذاتية – شمولية.

اقرأ أيضاً: تأمّلات حنَّة أرندتْ «في العنف»… تاريخياً

اختار نص مفرد بصيغة الجمع لأنه أكثر أعمال أدونيس خرقاً، بل هو الأقرب إلى الجنون من حيث هو جرحُ المعنى أو ارتجاج المعنى، ومن حيث تمرّده على المقاييس والمعايير. إذ يقدّم الشروخ التي تقيم التضاد في الذات والأشياء. أختاره لهذه الرؤية الشاسعة التي تتجاوز المعين الراهن إلى المتحرك المتحول، وإلى البعيد اللامتناهي؛ أختاره لهذه الرؤية التي تُداخل بين التاريخ والخرافة والذاتيّ الصّميميّ، لحظة التماسها الجوهري الإنساني.

نص مفرد بصيغة الجمع هو كذلك نوع من سِفر تكوين تغذّيه الأساطير مجردة من تفاصيل حكاياتها، ويؤجّجه الموروث النصيّ التاريخيّ والخياليّ. مع أنني لن أغامر وأتناول هذا المستوى، الذي يتطلب دراسة مستقلة، ولن أقدم دراسة شمولية. فالقراءات التي يقترحها النص متعددة، وكذلك الآفاق التي تنفتح في سياق هذه القراءات.

كما جذبني، بصورة خاصة إلى هذا العمل الجَرْفُ والتدفّق الهذياني للمشاعر والرؤى محمولاً على موج الصور والتداعيات التاريخية؛ جذبتني الحريات القصوى في ابتداع الصور، وبناؤها العنفيّ المتطرّف، فمنذ البداية يُشوِّش الزمنُ وتريبُه، وحيث الذاتي يتداخل بالمشهد الكلّي التاريخي والكونيّ، ويتحرك الجسد كجزء من حركة الفضاء والطبيعة، وتصطخب الطبيعة في الجسد. هذا، فوق أنّ الصور في النص هي غالباً بلا مراجع ظاهرة، لا في الطبيعة ولا في التاريخ، ما يجعل النص ينهض على توتر تصويري مبتدع بضع الخاص الجسدي – الذاتي في مهب التحولات الكونية، حتى ليرتسم عالم فوق العالم، عالم في توالد متواصل تُرفع فيه الحدود والفوارق بين الماهيات.

جرح المعنى

في هذا النص، ينزل المقدس إلى التجربة، يحضر التاريخ في اليومي، ينهض اليومي إلى المتعالي.

شذرات من الماضي والآتي تتلاقى في المستوى الحميم، ويحضر في النص لعب بالعمق الزماني وبمسارات المعاني، فالنصّ ملتقى، محرق تقاطع، في زمن متحوّل. تُشرق من الغياب شاهد مشفَّفة، تحضر اللحظات موشّحة بسحر التذكر. تتداخل رؤى الشاعر وأحواله الفكرية والجسدية، تاريخه وأصوات أسلافه الحقيقيين والمفترضين، داخل صورة كلية او داخل التاريخ الكبير. النص محرق هذا البنيان، بتعدُّد هوياته ورؤاه وبحضوره. هكذا يتخلّع كل شيء، يزدوج يتعدّد وينقض بعضُه بعضاً. تحضر احوال عاصفة وتندفع أشواق. تنهض أطياف ماضية لتسترد مواقعها؛ تدخل الأشكال في التحوّل، تدخل الألوان في الفجر أو في الغروب.

اقرأ أيضاً: حبيب سروري يدعونا في كتابه «لِنتعلّمْ كيف نتعلّمْ»!

لكن أين هو زمن الشعر والشاعر؟ ليس الماضي، ليس الحاضر، ولا المستقبل حصراً. الشاعر هنا مثل الحالم يتحرك بين الأزمنة بلا حواجز مرئية. إنه في زمن محيط مثل الفلك المحيط، الذي يمثّله زمن الحلم أو لحظة الانخطاف؛ يتحرّك إلى الوراء وإلى الأمام، ويُجمل ويؤلّف، يتجاوز ويطفو، لأن زمن الشاعر يستنهض أزمنة إذ يستنهض رؤى، قادمة من كل الجهات: من الماضي أو من المستقبل. لذلك، نجد اللانهاية في هذا النص حاضرة في قلب اللحظة الشعرية أو على الأقل في وعدها وأفقها، تماماً كما هي اللانهاية وعدُ كل نشوة أو رجاؤها وأفقها. من هذا التجدُّد والتعدُّد، يولد السحر الخاص للشعر أو يولد الوعد.

السابق
المواد الكيميائية تخزّن في سوريا.. بإشراف روسي!
التالي
بعد الاعتداء على السيد علي الأمين.. قوى الأمر الواقع تمزق صور ويافطات «شبعنا حكي»