رسالة إلى الحجر والبشر

هاني فحص

السلام على الرفيق حجر وابنتيه حصاة (صرارة بالفلسطيني) وزلَطة، وعلى أمه «جمَشة» وأبيه شقيف، وعمته صخرة، وعلى خالته دبشة، وبلدته القلعة وحيه (الدكروج) وجيرانه ورفاقه في السنسول، والرجمة والجل وخرابة دار الدرة في غزة، التي كان مرسوماً لها أن تتحول إلى غرزة للتسطيل، فتحولت إلى محترف لصقل الحجارة وتسديدها والتمرين على تلقي الرصاص بين الابن والاب.. والتلاوة قبل المظاهرة {والتين والزيتون وطور سنين، وهذا البلد الأمين} وبعدها «تد في الأرض قدمك، عض على ناجذيك، أعر الله جمجمتك، وارم ببصرك أقصى القوم، واعلم أن النصر من عند الله».
***

اقرأ أيضاً: أعضاء حمزة.. في مقام الخوف

السلام على الإخوة أبي مقلاع وأبي «مغيطة» وأبي «نقيفة» وأبي «كزوة» (الصائدة المطاطية حسب بعض اللهجات العربية) و«عقبال» المعدلة والرمانة والحرية، وزواج المحروس، وتوزيع الحلوى الملفوفة بالمحارم ملغومة بالحجارة، وهات يا فرح ويا ضحك ويا ذكريات!.. ويا بو نايل قلنا لك الجماعة يركزون على العيون وأنت بعين واحدة، فإذا ذهبت أصبحت مصيبتك كبيرة.. فقلت: لا بأس، لا أعود أرى هؤلاء الخنازير.. والآن ذهبت الخنازير إلى قماماتها فما رأيك؟ يا بو سمهران لا «تدير بال»إذا ذهب البصر فالله يعوض بالبصيرة، ومنظر الحرية والأحرار لا يحتاج كثيراًإلى العين، بل يحتاج إلى القلب، والقلب ممتلئ بالمشهد والحمد لله. و«العثرة» على أهل العيون الواسعة والقلوب الضيقة: {إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} .
***
التحيات الخالصات الزاكيات الغاديات الرائحات، إلىالأخت زكية الزاكية من دار زكي، أم زاكي، وتمنياتي عليها أن تفتح باب «الكوارة» التي تقع على الجهة اليمنى من باب «التبانة »والتي تدخر فيها الحجارة، وأن تفتح الكيس المزموم على كنزها العزيز من الحجارة التي قضت ليالي ما بين الانتفاضتين وساعات ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، في صقلها وتدريبها، وتوزعها على الشباب، لأنه صار من اللازم، مد اليد إلى الاحتياطي، خاصة أنها في آخر أيامها، حتى لا تصبح كالعملة الباطلة، ولن تستعمل مستقبلاًإلا لصيد العصافير وتعمير «القعاقير» وهدمها بسرعة، ولعب «القدة» وشقاوات الأولاد، ونقر الباب الموارب على «الكنة» و«سلفتها» تحذيراً وهما تغتابان أم زوجهما القادمة إليهما على غير علم منهما.. لقد آن أوان «المرتينة» و«الكلاشن» والعبوة واللغم يا أم زاكي، ولا داعي بعد للتذاكي وهو غير الذكاء ولا يأتي إلا من الغباء الذي لغبائه لا يعرف أنه غباء، ولا للتزاكي وهو غير الزكاة، أي الطهارة والنقاوة والشفافية والنمو والزيادة، والذي لا يأتي إلا من الخبث والعقم والإفلاس والشح بالمال والنفس والنفط، ولخبثه وعقمه يمسح لسانه بالزيت ويمسح القضية بلسانه، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور… ولا للتباكي، وهو غير البكاء، فالبكاء صدق والتباكي كذب، البكاء غيرة وحمية، والتباكي شماتة وحسد وسوء طوية وأنت تعرفين يا زكية ويا ذكية، أنت تعرفين أن المستأجرة ليست كالثكلى، وفهمك كفاية، و«خليها بيناتنا»أنا شايف وأنت شايفة، واللي بُصبر بُوصَل، هالكيت واللا بعدين والمهم ما نعجل ولا نؤجل، والتين ما بينوكل عجر ولا ينترك حتى يخبخب… والديفورة مليحة لأنها بشارة بالتين ولكنها ليست التين.
عزيزي إمام المسجد المتواضع والأليف المسجد والإمام في الحارة التحتا من قرية دورا القرع في محافظة الخليل.. صباح الميرامية يا شيخنا، صباح أبيض كالكلس والفل الفلسطيني، تذكر ولا شك، كيف ضاقت بك السبل وضاق صدرك لما تأخر مطر العام الفارط، وألقيت نظرك من طاقة المسجد على السهل ورأيت إلى القمح الأخضر والشعير كيف يصفر ويذبل عطشاً، وفي لحظة الخوف على الكرامة من الحاجة، افترشت عباءتك في السهل إماماً ومن خلفك الجموع، نساء ورجالاً، شيباً وشباباًوأطفالاً، مأمومين في صلاة استسقاء من القلب.. من قاع الروح. وما هي إلا ساعات من تضرع صادق حتى عدت إلى منزلك وأنت تضحك من نفسك، وعلى جسدك الذي بلله المطر المنهمر بغزارة فلانت روحك ومفاصلك، وأبيت أن تجفف الماء واستعذبت الرشح والسعال، وعالجته بالزوفة والميرامية… هنيئاً… وإني لأراك الآن عائداً من سوق الخليل خالي الوفاض، لأن السوق مغلق… ووحدها الحجارة هي السلعة المتداولة، كالمطر، ووحده الدم الحلال يصعد إلى السماء ولا يسقط، لأنه يقع في يد الله، التي قال عنها اليهود إنها مغلولة، غُلت أيديهم.. أخي العزيز اني أأتم بك هذه الأيام على بعد المسافة. ولكن الحب والشوق يقرّبان البعيد.. ويبعدان القريب، على المعنى المجازي كما تعلم وعلى ألم في القلب كما تعرف.
تقبّل الله صلاتك ودعاءك، ودامت الحجارة في دياركم رشيدة راشدة، وألف تحية من حجارة بيوتنا المشتاقة، إلى الحجر الفلسطيني الشفاف المنهمر ورداً من ورد العيون على أرض الورد، مبشرا بالخصب، واعداً متوعداً، {وساء مطر المنذَرين} .
ألله ألله، ما أعذبها يا أخي من صلاة، فرضاً وسنة، بين قمر القدس وشمس «بني سهيلة»، بين العشب والشعب، بين العطر والعرق، بين الحجر والحجر، بين الحجر الحجر والبشر البشر، بين الحجر البشر والبشر الحجر، {فتبارك الله أحسن الخالقين} .. بين خليل الرحمن ومربى الناصري، بين أقصى الأماني وقيامة الأحياء عند ربهم يرزقون وصخرة المرقى إلى السماوات العلا، حيث تتحاور الحواري وينام الحواريون على رجاء القيامة بحراسة رواد الحجارة والحجارة الرائدة {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} .
سلمولي عليه

كلما صدر كتاب للمطران جورج خضر اتصل بي عدد من الإخوة والأصدقاء، أو كلموني مباشرة إذا التقينا، عن ذلك، وكأنني المعني الأول بالكتاب بعد كاتبه، أو كأنني كاتبه، وهم يزفون لي بشرى خروجه من المطبعة، وكأنهم يباركون لي مولوداً جديداً، وإن كان هذا المولود، شأن كل كتب المطران جورج، قد ولد مكتمل الرجولة بالغاً أقصى الرشد وغاية الجمال وطفلاً كصاحبه.. ولا يخفي البعض شعوره بأنه وجدني في بعض من الكتاب وقد لا أكون في الكتاب، ولكن الأمر يلتبس على قارئ الكتاب، فيقرأ المطران فيَّ، ويتخيلني في الكتاب. يقرأني في هذا الرجل ناسياً أني مسلم وأنه مسيحي، لا والله لا ينسى ذلك وهذا ما يسعدني.
ولا ألبث أن أذهب إلى الكتاب قارئاً، لأشعر بأن ما كتبه المطران خضر، هو ما كنت أريد أن أكتبه. ولم أكتبه، وكتبت غيره مما يكون فيه شبه بالمطران خضر. ويسألني سائل من أهل ملّتي، في مكان من أمكنة الصفاء المذهبي (الذي يعني القطيعة مع الذات لأنه قطيعة مع الآخر) يسألني عن مسوِّغ أو مبرّر أو شرعية أو منطقية أو صحة وجودي أو إيجادي أو انوجادي أو كموني أو ظهوري أو إشراقي أو سطوعي ؛ كما أدعي : في بعض من نصوص المطران شديدة المسيحية ! وهل أكون موجوداً وبشكل مشروع وجميل ومطابق في نص للمطران خضر عن الحسين وواقعة الطف ومقتل الرضيع وحمل الرأس على الرمح وقيود زين العابدين وتحمل زينب مهمات الأبوة والأمومة والإمامة إلى أن تنجلي الغمامة ؟
إن النصوص التي يكتبها المطران خضر شراكة في مساحة المعرفة الإسلامية أو المعرفة بالإسلام نصوصاً وشخوصاً، جروحاً وآلاماً وآمالاً، هي نصوص، وإن برئت من المجاملة أو المصانعة، إلا أن الذي يسكن فيها هو المطران خضر في لحظة اتساق وانسجام وكينونة للذات في الآخر.. في حين أني كمسلم، أو شيعي، أو غير أرثوذكسي، لا أشعر بحضوري الكثيف والمشرق في نصوص المطران خضر، إلا عندما يكتب نصّه المسيحي، وللمسيحيين حصراً أو أولاً.. وهنا لا يصبح الآخر شرطاً للذات فقط، بل تكون الذات قد تحققت بشروطها، ويكون الآخر قد تحقق بتحقق الذات.. وعلى السلّم الهارموني نصعدنبلغ الفوق، فوق الفوق، حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
حيث الألوهة والتأله والإناسة والتأنس والتأنيس والأنس والأنبياء والأولياء والقديسون وأهل الطوبى والشهود والشهداء، في كوكبة تشف عن نور ويغلفها النور ليقود العارف إلى تلابيب المعنى، حيث تصبح الأديان والمذاهب، مسالك تتكثر في الواحد وتتحد وتتوحد في المتعدد.
هذه هي ميزة المطران خضر.. وهذا سر نكهته الطيبة المنعشة، اللاذعة أحياناً، الحارقة أيضاً، ولكنها تحرق فيك ومنك أوشابك، وغثاء السيل الذي يطفو على نهر نفسك أو بحر إيمانك، في الأعاصير، حتى إذا ما استرحت من وعثاء المفارقة والممايزة والفتنة، وهدأ الإعصار، عاد للنهر صفاؤه، وحدقت من أعلى المجرى إلى قاعه، فعاينت صغار الحصى في قاعك وقعر الذي يقف قبالتك يأخذك إلى عينيه عن طريق القلب، ولا تلبث أن تعاينه وتعانيه في عينيك فتدرك أنك سلكت إلى التوحيد والواحد درباً لا ضلال فيه.. وأنك بالغ رأس النبع فترتوي من هذا الواقف قبالتي يدعوني إلى الاسلام إذ يمعن في مسيحيته.. ويدعوني إلى التشيع إذ يغرق في أرثوذكسيته، ويأخذني إلى رتبة دفن المسيح والبربارة والغطاس، ويرافقني إلى عاشوراء والأضحى والفطر.. يسبقني إليها مدججاً بمسيحية فولاذية سرعان ما تصبح مشاتل ورد إذا ما باشرها المطران خضر باحثاُ عن “مطارح سجود” آتياً من “لو حكيت مسرى الطفولة”، الذي يبقى تعريفه لتصبح كتبه الأخرى شروحاً لهذا التعريف وتسييلاً لهذا الرصيد في مصرف المحبة، حيث نذهب إليه كلما استشعرنا الفقر فيسلفنا من دون ربا شرط أن يربو الرصيد باستخدامه في الخيرات {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له} ، كأن الإنسان قد صار بدل بيان مضمراً لله!
لا يتردد المطران جورج خضر في التعبير عن غبطته مني ولي على نزوعي العميق، كنزوعه، إلى صيرورة دائمة تجعل الهوية المركبة بثوابتها المرنة موصولة بالمختلف والاختلاف، ويغبطني كاشفاً غبطته بلحظات إبداع تظهر أحياناً في نصي ومسلكي. أما أنا فأغبطه غبطة تكاد لا تغادر ملمحاً في شخصيته أو أدائه أو علاقة المحبة التي تجمعه بهذا البحر من الناس، من كل الألوان، يحبهم ويحبونه، يحبهم سراً، ثم يجاهر، ويحبونه سراً، ثم يهتفون : هللويا هذا الجمال الإلهي في الوجه واللسان والقلم. ويدهشني فيه، ما اعتبرته في بعض كتاباتي النقدية، ميزة للنظم القرآني، في تناول حدث واحد أكثر من مرة، وفي كل مرة يكون هناك جزء من حقيقة الواقعة كافياَ لتركيب نص كامل وجميل عليه، وفي كل المرات يكون هناك مشترك متكرر من صورة الواقعة المروية، تبرر بناء النص وتشكل أساس عمارته المطابقة والموازية في آن. وفي تكرار تناوله للموضوع أو العنوان الواحد، يكتمل إبداع المطران خضر، ويبدو الموضوع وكأنه قد ختم.. بين يدي وأنا أكتب كتابه “مطارح سجود”، الجزء الثاني، يكتب فيه خمسة نصوص عن التجلي، كل نص قائم بذاته وتام لا ينقصه شيء، وكذلك خمسة نصوص عن مريم، وعشرة نصوص عن الميلاد.. وهكذا.

اقرأ أيضاً: العيد.. تذكار الجميل واستشراف الأجمل

وإذا ذهبت إلى “إنشائه” تخيلت أن لديه مولداً كهربائياً للإبداع، حتى ليبدو الكتاب أو المقال وكأنه معرض تعبيري أو تشكيلي أو إيقاعي أو هي جميعاً.. واقرأ معي واعذرني على افتتاني بهذا الرجل ” إن الله لا يسكن واحات اصطفاها، إنه وحده هو الواحة، بعد عبور البوادي”.. ” الشاهدون يخفيهم تواضعهم حتى تظهر طراواتهم في الموت وفيه تبدو وجوههم للرب وتشع منها أنوارهم “.. ” أمس أضاء أطفالنا الليل، الطفولة تخترق الليل”.. ” من يأتي ليقرأ الماء تحت حجارة البرية أو القلب؟”.
واقرأ معي شجاعته وصراحته وقدرته على قراءة اليهودية قراءة مسيحية تحررها.. “نحن مشكلتنا اللاهوتية ليست مع اليهود من الصهاينة، هؤلاء بيننا وبينهم خلاف مناقبي لاعتدائهم على شعب وأرضه، خلافنا الديني هو مع الدعاة المسيحيين للصهيونية في الغرب. وبالتالي لا نرفض التوراة لمجرد أن قوماً، يهوداً كانوا أم مسيحيين، يحرفونها عن مواضعها ويغيرون مقاصدها إذ يدعمون بها الزعم الصهيوني، نحن نستخدمها وفق عقيدتنا ونحن معها في تفسير نحسبه موافقاً للإيمان المسيحي “.
واقرأ معي أفقه التوحيدي: “نرحب بكل الحقيقة القائمة في الأديان اللاحقة للمسيح ذلك لأن لله عهداَ بينه وبين الإنسانية فيها “.. “الصليب لا يقود إلى كومة مسيحيين يستحبون أنفسهم ويستلذون مجتمعهم ويسكرهم رقيّ لهم مزعوم”.
في منتديات الحوار في الفضائيات وعلى صفحات الصحف.. ينشغل أحبابي وأحبابه “حقلنا الأخصب” بالتقاط نبراتي في صوته وتوتراتي في هدأته.. ودهشتي بقدرته على تكسير سياق القول ليحيل الجواب الذي شرع في قوله إلى سؤال أخير لتبدأ المعرفة.. وولعي به عندما يخلع ثوبه ليرتدي حاله ويذهب في عمقه فيغريني بالتخفف من ثيابي والبحث عن مشكاة فيها مصباح يدلني بنوره على أعماقي. أوليس معذوراً ؟ أليس مشكوراً بعد من يبتسم لي ويخاطبي بفرح : أمس التقينا أخاك جورج خضر.. ويقولون لي: إنه يسلم عليّ.. وقد لا يكون قد قالها.. ولكنهم يعرفون أنه يسلم عليّوأسلّم عليه.. سلّمولي عليه.

(من كتاب في وصف الحب والحرب)

السابق
هل من معارضة حقيقية في دائرة صور– الزهراني؟
التالي
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الخميس في 12 نيسان 2018