دلال البزري تفْتَحُ «دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية»…

تمتاز كتابة دلال البزري، عن الحرب الأهلية اللبنانية، بأنها كتابة إبداعية، تأخذ منحاً تأملياً صرفاً، في مجريات تلك الحرب، من جهة، وفي تداعيات أحداثها، من جهة أخرى.

انه الحديث عن «الذاكرة المكروهة» التي اتصفت بها كتابة الكاتبة الاعلامية دلال البزري في كتابها الجديد، الصادر حديثاً تحت عنوان: “دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990) (عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في بيروت، وفي طبعة أولى، أواخر الـ2017″.
ففي هذا الكتاب، تفتح دلال البزري، دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية، لتقول، ضمناً، للقراء اللبنانيين – وهذا ما نستشفه من قراءة الكتاب – إن ما يعيشه اللبنانيون اليوم، من انقسامات عمودية حادة، تغيِّب التزامهم بالجوامع المشتركة، التي من شأنها أن تجمع اللبنانيين حول القضايا الوطنية الكبرى، إنما هو عائد إلى جذوره التي نبتت في الأرض الخصبة للحرب الأهلية التي عصفت بلبنان، وشرّعت، ولا تزال مصائر اللبنانيين جميعاً، على مهبّات الرياح المتقلبة والمتناقضة، حيث “يخرج الوقت من الزمان ويصبح طليقاً، لا حساب في هدره ولا دراية غير ما يتعلق بالحياة أو الموت”. وهذه هي سمة خطاب كتابة البزري، في هذا الكتاب العامر بكشوفه النقدية، ودلالاتها التي استطاعت أن تقدِّم مناخات وأجواء هذه الحرب، كذاكرةٍ تاريخية (فردية وجماعية على السواء) مكروهة، ذلك لأنها ذاكرة طافحة بالخيبات والمرارات والآلام المبرِّحة… إلخ.

اقرأ أيضاً: «ميراث أبي»… روايةٌ أُولى لدلّولة حديدان

فنحن هنا، أمام كتابة إبداعيّة، تتعامل مع مرجعها الحيّ (الواقع المعيش) تعامل الندّ للند، وهو تعامل يدعونا، ضمناً، إلى التفريق، جيّداً، ما بين ثقافتين متناقضتين تماماً: ثقافة الموت المجانية/ العبثيّة؛ وثقافة الحياة، البنَّاءة، المبدعة والخلاّقة.
ومما تقوله البزري في مقدّمة هذا الكتاب: سوف تجد دائماً سبباً للكتابة عن الحرب. إنها تقرر حيوات الناس. وإذا كانت هذه الحرب أهلية، فهي ترفع من قبضة القدر، توسّعه، تُمْعن في ابتداع ألوانه. بعد اثنين وأربعين عاماً على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975)، وسبعة وعشرين عاماً على توقفها (1990)… عندما تسأل نفسك: ما الذي أوصلني إلى “هنا”؟ إلى “هذا”؟ سوف تجد أن فصلاً، هامشياً ربما، من فصول الحرب الأهلية هو الذي أوثق يديك الاثنتين، أو أيادي أهلك، وقادك إلى حيث أنت الآن.

دلال البزري كتاب

المشاهد التي عمرت بها بيروت بدءاً من الأعوام الأولى للثورة السورية ضد نظام الأسد، أيقظت هذه التساؤلات الوجودية. عندما أمشي في شوارع بيروت، وأشاهد تلك المجموعات الحزينة من السوريات المُرْهَقَات، يعبرن الأرصفة الضيقة بخَفَر، يسحبن أطفالهن من أكمامهم… ومعهن عدد أقل من الرجال، يتوهون، أو يطوفون، لا يعرفون غير وجهة الشمس… ثم تتوالى المشاهد الأخرى، في البر والبحر، في العباب والسيول… أقول لنفسي إنه كان يمكنن أن أكون واحدة من أولئك الضائعين، الخاسرين…
فأدخل في المقارنة بين الحرب الأهلية اللبنانية التي عشتها، وبين تلك الحرب في سورية. أقارن فلا أجد مجالاً. كانت الحرب اللبنانية مجرّد نزهة شاقة، قياساً إلى الحرب السورية. كيف؟ أشك بما أتذكره، ربما عواطفي السياسية، ربما خيانة ذاكرتي، ربما المسافة بين عمري وعمر الحرب، التي تكاد تبلغ الآن نصف القرن. ربما ثلاثتها سحبت الخيط الدراماتيكي عن الحرب، فطعّمت مرارة ذكرياتها بحنين عبثي، قوامه أوهام مرغوبة. “ربما…”، أكرر لنفسي.

اقرأ أيضاً: قصائد جديدة في «شيرازيات» محمد علي شمس الدين

كي أقطع بعض الشك، كان لا بد لي من تذكُّر ما عشته أنا شخصياً في تلك الحرب الأهلية، الذي يتصل بفصل من فصولها، ثم تدوينه قبل أن يُمحى نهائياً من ذاكرتي. وأجعل منه دفاتر، كل دفتر يروي واحدة من حكايات الحرب هذه: بتفاصيلها الصغيرة، ويومياتها، وعادياتها. وكل دفتر يترك للقارئ ترف الذهاب بعيداً، في تخيّل الدينامية الوجودية التي تطلقها حكايته على مصير أصحابها، أو شخصياتها.
ليست هذه الدفاتر “سعيدة”، كما كانت عليه السنوات التي سبقت الحرب؛ وقد رويتها في الجزء الأول من هذه المرحلة في كتابي “سنوات السعادة الثورية” (دار التنوير، 2015). ليست “سعيدة”، تلك الدفاتر، أقول، لكن مأساويتها محدودة، كما كانت الحرب الأهلية اللبنانية محدودة بجغرافيتها، لم تتجاوز الحدود اللبنانية؛ عكس الحرب السورية ذات القعر اللانهائي، التي أشعلت شظاياها نيراناً كانت هامدة، قريباً منها وبعيداً عنها.

السابق
جورج الراسي يتبرّأ من جموح اخته نادين على مواقع التواصل
التالي
سمير فرنجية هذا الرجل – المُختبَر يُشعِرني بالنقص