الشعارات الانتخابية الإسلامية: تأبيد للطاعة وتنكّر للحقوق الإنسانية

لم يقصّر حزبٌ من الأحزاب، ولا مرشّحٌ من السياسيين اللبنانيين ورجال الأعمال، في "توليف" تحالفات انتخابية، هدفها إيصال "أبطالها" إلى كرسيّ النيابية، جرياً على عادة اللبنانيين في انتخاباتٍ تكاد تخلو من أيّ التزام حقوقي على المستوى المعيشي أو السياسيّ..

وما أسرع أصحاب الحظوة والحافلات والمحادل من الانقلاب على سرديّاتهم وشعاراتهم في اليوم الذي يلي يوم التكريس النيابي التمثيليّ.

إقرأ ايضا: «ما تنتخبوهن قبل تعرفوهن»: حملة ضد علي عمّار ونوّاب بعبدا

واللوائح الانتخابية، تُشكّل وغايتها الوصول إلى كرسي الجلوس، لا إلى تحقيق الوعود والعهود، بل ربّما شُكّلت لوائح لتأمين خوض مرشّح فريد محظوظ تجربة الانتخابات النيابية، إذ الكلّ سواء في تحيّن فرص الفوز، وحصد “المقاعد المقدّسة” في المخيال اللبناني، حيث لا تكتمل الوجاهة والزعامة إلا بمقعد نيابيّ يكون وراثياً في كثير من الأحيان.

وفي الانتخابات العتيدة، نلحظ مفارقة لا تتمثّل في الانفصام بين المبادئ والعقائد من جهة، وحركة الميدان من جهة أخرى فقط، بل في إصرار المرشّحين على طلب الطاعة الشخصيّة، فيما ينبغي أن تكون الانتخابات ديموقراطية، وتعبّر عن ثقافة حداثيّة، وتقوم على تقديس حقوق المواطن الطبيعية والقانونية في إطار جمهوريّ، ناهيك من موجبات على المرشّح أو الممثل الالتزام بها حين الفوز.

وإذ الواقع غير الواقع، والواقع ما يريده “الفارس” الانتخابي من إراءة للجمهور، في ميدان منافسة دونكيشوتيّة، ينحو الخطاب عموماً إلى طلب الطاعة وتأكيدها، وإلى استغناء مستبطن عن “جميلة” “التابع” في عملية الاقتراع، وذلك في سياق منطق ديني صوفي، أو ملكيّ مطلق، يعبّر عنه ويوصّفه كلام الإخوانجي المنشقّ ثروت الخرباوي حول اتّباع النصير لمسؤوله الحزبي، في ثقافة “الإخوان المسلمون”، حيث يقول: ” والأخ بين يدي مرشده كالميت بين يدي مغسِّله، يقلّبه كيف يشاء. وليدعِ الواحدُ منَّا رأيه، فإنّ خطأ مرشدِه أنفعُ له من صوابه في نفسه”.

فالخلفية التي تقوم عليها الشعارات الإسلامية في الانتخابات تضرب بالموروث والمبادئ عرض الحائط. فلا صوت للعدالة الاجتماعية التي مثّلها علي بن أبي طالب عليه السلام، ولا قواعد عقلية وفيّة لتراث العدليين في التاريخ الإسلامي، ولا التزامات حداثية على صعيد بناء الدولة ومؤسساتها، بل إيغال في تفريغ الأفكار الكبرى من معانيها لصالح مضامين حزبية ضيّقة، وقد تكون شخصيّة!

وفي جولة على بعض الشعارات الانتخابية، نجد الآتي:

ثقة الأمين والإمام، ومن ائتمنه الأمين

فما دام الأمين قد ائتمن شخصاً فلا ينبغي للمواطنين الالتفات إلى أيّ شيء آخر، بل عليهم ـ وفق المنطق  الشعاراتي ـ المبادرة إلى التصويت بكثافة، بل التسابق على محض الرجل ثقتهم أيضاً، من دون سؤال أو جواب، أو جردة حساب للأمناء الذين سبق لهم الفضل في تسنّم ظهور العباد. فهل من قطع حساب للتشريعات التي عزّزت حقوق المواطنين وسهّلت عليهم أمور حياتهم ودنياهم اللبنانية؟ وهل يمكن للثقات أن يخوضوا دورات ودورات ولا يُسألون عن موجبات مراكزهم النيابية؟ وهل يمكن للثقة أن يُمحض الثقة من دون الالتفات إلى سيرته الذاتية وتحصيله العلمي وخبراته التشريعية؟ وهل يمكن للثقة أن يكون فرداً لم يسبق له الاضطلاع بدور أبعد من عمله التقنيّ؟

وإذا عدنا إلى الدورات الفائتة ورأينا حصيلة الثقات، فهل نخرج بغنيمة معتدّ بها؟ نسارع إلى الجواب لا تشريع ولا خدمات ملحوظة، إلا ما هو يومي وعادي من توسّط وتشفّع لدى المسؤولين والموظفين الكبار للعفو عن طلبات إدارية هي حق للمواطن وواجب على المسؤول أن يجريها تحت طائلة المسؤولية والمحاسبة والعقاب، فأين الدولة وبناء السلطة الذي ينادي به كلّ فرد وحزب من المتنافسين في مضمار السياسة اللبنانية والانتخابات؟!

وفي الفقه الشرعي أن كثيراً من الأحكام يعود تشخيصها إلى المكلّف، وأن العقائد لا تقليد فيها، فكيف بمن يتولى سياسة العباد؟ وهل الثقة تغني عن كلّ الخبرات المطلوبة؟ وكيف إذا سئلنا في يوم الحساب عن أعمارنا في ما أفنيناها، وإجابتنا هي إجابة أهل الكفر ـ لا سمح الله ـ إنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا؟!

فأين المعيار؟

صوتي وفا للنصر…

شعار آخر يُرفع للشحن العاطفي، ويستبطن اتهاماً لكلّ من لا يلتزم أسماء معروفة أنّه يخون الأمانة والدماء والعهود والروابط العديدة بين جمهور الأمة. لكن الوفاء المطلوب لا يلغي المشروع المستقبلي المناط بالنائب العتيد. فالوفاء بالنظر إلى سابق الأيام قيمة، بالرغم من أنّه لا يُشكّل فارقاً في الحكم على المرشّح وقدرته مستقبلاً. فالوفاء قيمة فيها من البعد الشخصي أكثر مما فيها من البُعد الجماعي. والوفاء قد يُصيب العملية الانتخابية والآليات الديمقرطية في مقتل، لأنّه يستبعد من النقاش الحقوق والموجبات التعاقدية، ويُصبح الكلام في علاقات أوّليّة قائمة على روابط الدم والأخوة.. بعيداً من الموجبات المتقابلة والمصالح المدنية المعتبرة في المجتمعات الحديثة.

من أنتم لتقولوا للمقاومة؟

ثم يُتحفنا مرشحّ في الخلط بين المقاومة وقدسيّتها، وبين الخيارات الانتخابية المبنيّة على تقييمات مختلفة المعايير والسياقات، وهو الذي قدّم لحفله الانتخابي رجلٌ يقول عنه وعن حزبه إنهم “إرهابيون”، في وقت كان المرشّح وجمهوره يستمتعون في المنتجع المملوك لذلك الرأسمالي داعية السلام. يقول المرشّح: “بعد كل هذه الدماء والتضحيات التي قدّمتها المقاومة، تأتون لتحدّدوا للمقاومة ما يجوز وما لا يجوز؟!”.

إذاً من الذي يحدّد؟ وكيف تسلب من الموطن حقاً طبيعياً وتشريعياً كفلته له كلّ المدونات القانونية، حين تعتبره غير أهل لتحديد خياره، من دون أن يلزمك بشيء تجاهه إلا ما التزمت به؟

أيّها المرشّح! لا يُلزمك المواطن البسيط بشيء، لكن العدل لا يُبيح لك اغتصاب حقه في الحكم على أمور الدنيا، وأنت الذي تحكم له في أمور الآخرة!

هذا المنطق يدمج بين شخص المرشّح الكريم المتحالف مع قدامى القوات اللبنانية وخليط متنافر من الولاءات وبين المقاومة كخيار وطني تحرّري، تبنّاه المجتمع اللبناني، برغم كلّ المحاذير والآلام والصعاب، ليقول للناس إن شخصه هو المعيار في صدق تبنّيهم لخيارات كبرى، فيما هو قد يدعو إلى ما يدعو بخيار شخصي، ورغبة في الفوز بمقعد نيابي هو حق له بشروط.

من دون أدنى شكّ أن الكلام تعبير ديماغوجي، ولا يستقيم مع الحق المكفول للمواطنين باختيار من يرونه الأمثل لتمثيلهم. وله يمكننا القول “انتخب نفسك بنفسك ولنفسك”، إذا كنت غير ملتزم باختيار الناس، ولا ترهق الناس بالاستماع إلى ما تراه ولا يراه غيرك.

كيف لا ننتخبك واسمك علي؟

 

ولطيف أن يذهب معيار الانتخاب إلى التشبّث بالاسم دون المضمون، كأنما ما نُدعى إليه ليس سوى حفلة عواطف، تتماهى فيها شخوص المرشحين بشخصيات التاريخ، وتفارق زمنيتها لتبلغ مستوى روحياً، يستدعي التزاماً لا حياد عنه، حيث نعكف على عبادة الأيقونة، بل الصنم الذي ارتضيناه بعد الهبوط إلى درك من تنعدم عنده الثقافة السياسية، سواء في مستواها الحداثي أو التقليدي أيضاً. فنحن ننتخب الأسماء، ونتقاتل على التاريخ، وننسى الحاضر والمستقبل، وننسى كلّ ما جعل الله فيه سبحانه عمارة الأرض وسعادة الإنسان!

بالحق أنزلناه

ويكتمل المشهد غير التاريخي في المماهة بين الشخص الزمني وآيات الكتاب المجيد، إذ يأتي الشعار “بالحق أنزلناه”، وفي المشهد يد تقترع بورقة المرشّح “عليّ” كأنّه آية محكمة أو سورة من سور العزائم، أنزلها الله سبحانه لعباده، ولا يملك الشخص إلا قول “صدق الله العلي العظيم” أو السجود امتثالاً للأمر الإلهي في وحيه المنزل وكتابه الكريم!

ولا عتب بعد ذلك ولا عيب على من قال لأحد الملوك المسلمين:

ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ              احكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ

وكأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ                  وكأنّما أنصاركَ الانصارُ

الأمر لك!

ثم يتنزّل الأمر ليكون لسيادته بصيغة “الأمر لك”. فلا أمر غير أمر الزعيم في ميدانٍ هو مجال رحب لكلّ الآراء السياسية والتدبيرية في حياة الناس، فيما مجموعة الأوامر ميدانها العسكر والحرب، حيث لا ترف يعطي المجال للاحتمالات والتجارب التي قد تكون قاتلة. فهؤلاء قوم يأتون السياسة من خلفية حربية حيث يقتحمون مجالاً بغير وجه حق، ويقيمون على نفور دائم من قواعد الدبلوماسية والسياسة لصالح الحرب وآلتها القاتلة.

ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، فيما النفايات تحاصر حواضرنا، والعتمة سميرة ليالينا، والآبار والمولدات محظية جيوبنا، ومستقبلنا رهن عجز الموازنة والبنوك الدولية والمرابون الوطنيون الحاكمون بأمرهم في الدولة!

بالله عليك اغضب

ولا ينقص الأمر إلا الغضب حتى يقوم الجمهور بما يلزم من تحطيم وتعطيل، وما يلزم لثني الآخرين عن القول المختلف، كأنما السياسة لدى هؤلاء مجال لإغلاق الآفاق أمام أي رحابة ممكنة ومطلوبة.

ولماذا يغضب الزعيم ما دام زعيماً، ويملك من القرار والسلطة ما لا يملك منه الآخرون إلا القليل، فهل هذه هي السياسة؟

بناء المجتمع المضاد

أهل هذه الشعارات يحيون في بوتقتهم الخاصّة، وضمن ثقافتهم التقليدية، ويحتاجون آليات تمثيلية مختلفة بالتأكيد عن الآليات الديمقراطية، بالرغم من وجودهم واضطرارهم إلى الالتزام بالمعايير الوطنية التي تتمثل التجارب الغربية الحديثة وخلاصاتها الديمقراطية والتمثيلية. فهل يلجأون إلى بناء مجتمع ضدّ أو بديل؟ أم هل يلجأون إلى تطوير خطابهم وثقافتهم السياسية ليحيوا المعاصرة بدل المراوحة في مساحات الفشل؟

إقرأ ايضا: «حزب الله» يتشفّع بالإمام علي لنصرة علي عمار في الانتخابات النيابية

التحالفات النفعية

وبالرغم في كلّ المستوى القيمي الذي تنضح به الشعارات الانتخابية يفاجئنا مستوى الذرائعية الذي تعتمده الشخصيات والقوى السياسية في مفارقة فظيعة بين القيم والمبادئ والمعايير السياسية وبين واقع وتحالفات الصدف. والأنكى اللسانات الصادحة صباح مساء بكل أثقال القيم والوطنية وسوى ذلك، فيما الأفضل الاكتفاء في خوض التنافس بالمعايير السوقية (نسبة إلى السوق) المعتمدة وعدم تكبير الفارق بين الخطاب والممارسة التي لا تشرّف أحداً!

السابق
وهاب: أناشد رئيس الجمهورية وضع حد للمهزلة التي يقوم بها رئيس الحكومة مع وزير المهجرين
التالي
المياه في الضاحية الجنوبية تُهدر