البرامج الانتخابية وأحاديث الفساد ضد مجهول، واستعصاء الاصلاح

في حمأة التهليل لموتمر سيدر في باريس الذي اطلقت عليه تسمية ( سيدر الارز ) و اضفاء لون من السحر على نتائجه والامال الموعودة التي يمني بها اقطاب السلطة اللبنانيين واعلانهم العزم على افتتاح ورشة كبرى لاقتحام غمار الاصلاح الهادف وفق زعمهم الى النهوض بالاقتصاد ومكافحة الفساد و ترشيق الادارة..

هل يمكن الحديث عن محاربة الفساد كمهمة لها الاولوية عما سواها في أي برنامج انتخابي؟

من السهولة بمكان وضع قائمة بالعناوين الكبرى لأي برنامح انتخابي تتساوى فيه كل العناوين، وتغيب فيه الأولويات.

الكلام عن برامج الإصلاح وعن الفساد يحيلنا إلى مرجعيته، أي إلى النظام الطائفي والطبقة الحاكمة التي نشأت في ظلهما هذه الظاهرة، وتطورت بفعل طبيعة و سياسات الطبقة السياسية الحاكمة على امتداد عقود حتى وصل إلى حد غير مسبوق وأصبح قانوناً عاماً ومنظومة متكاملة تأخذ بخناق الوضع اللبناتي برمته .

غير أنّ استعصاء الإصلاح يكمن في كون من هم في السلطة ليسوا هم أصحاب المصلحة الغعلية في تحقيقه ، لا بل أنّ هذه القوى ليست معنية بمأزق البرنامج ولا بالبحث عن حلول له وعن مخارج منه، بقدر ما هي سعيدة بتعمق هذا المازق ومطمئنة إلى تحميل المسؤولية لسواها كونها تنطلق من مواقع طائفية تعتبر الانقسامات بين اللبنانيين أرضاً خصبة لمصالحها، وهي في حقيقتها ترمي إلى الحفاظ على مصالحها الطائفية الضيقة، السياسية منها والاقتصادية والمالية، فضلاً عن رضوخ هذه القوى السياسية في العلاقة فيما بينها لمنطق المساومات، منطق هذه المساومات معروف، كل قوة توافق على أيّ بند أو قرار أو صفقة مقابل حصة تقتطعها هذه القوى من جسم الدولة الاداري او الاقتصادي او المالي والاستثمارات والتوظيفات. يتفاقم هذا المازق خصوصا في ظل الآلية الراهنة لممارسة اللعبلة السياسية اللبنانية خصوصا في ظل التسوية التي آلت الى انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية وسعد الحريري ئيسا للوزراء وعلى قاعدة ربط النزاع حول المسائل المختلف عليها، وما يستجره ذلك من مساومات ومقايضات وتبادل للمنافع التي لا تؤدي الى تراكم يستفيد منها قيام الدولة ، بل الى تراكم تسعى قوى السلطة الى تقاسمه على اساس نوع من التشبيح السياسي والاقتصادي ، وهكذا تتوالى المقايضات دون انقطاع على حساب قيام الدولة وسيادتها.

وفي النظر الى احاديث بعض من هم في السلطة عن اولوية محاربة الفساد (حزب الله) التي جعلها عنوانا لبرنامجه و لحملته الانتخابية، فان استحالة نقل هذا الشعار الى حيز التطبيق تكمن في كونه اولا مكونا عضويا من طبقة سياسية تشكل بكل اجنحتها نتاج نظام طائفي واحد، و يسعى كل منها الى احتكار تمثيله لطائفته ويغرف وزنه وقوته من مدارها المذهبي الخاص، و الى تحسين موقعه في المعادلة السياسية العامة، وفي معادلة السلطة، ثم في كونه ثانيا كما غيره شريكا في لعبة احتكار تمتيل طائفته وشريكا في لعبة التسويات والمقايضات، فضلاً عن انه لا يستطيع توفير عناصر قوته السياسية في اطار معادلة السلطة انطلاقا من امتلاكه السلاح فحسب، بل في لجوئه فوق ذلك الى مقايضته سلاحه مقابل اطلاق يد باقي مكونات السلطة في الجانب الاقتصادي والمالي (معادلة المقاومة والسلاح لنا، والاقتصاد لكم) وحاجته الدائمة لمراكز قوى تدعم هذه المعادلة تحت عنوان ربط النزاع حول المسائل المختلف، مما يضعه في موقع الصراع مع اقرب حلفائه، ناهيك عن خصومه اذا اراد تنكب دور الساعي فعلا الى مجاربة الفساد وكبحه، وهكذا تتالى المساومات على غير انقطاع وتفقد الدولة من سيادتها و جسمها الحي ثمنا لهذه المساومات في ظل تمسك حزب الله بوجهة احتكار تمثيل الطائفة ، كما تمسكه بوضعية الحاكم الفعلي للبنان وتحكمه باللعبة السياسية والامنية والعسكرية، مما يجعله يلعب دور المايسترو في توزيع الحصص والمناصب على سائر اجنحة السلطة، وفي هذا المجال لاتخفى الدلالات السياسية لارتفاع وتيرة وحدة خطابه خلال حملته الانتخابية واتهاماته بشكل ملحوظ توازيا مع احتمالات خرق لوائحه، الامر الذي لامس حدود تصنيف اي مرشح مناهض للوائحه في خانة العميل لاسرائيل او الموالي للتنظيمات الارهابية.

الى ذلك كله فان الحاح الحزب في طرح شعار اولوية محاربة الفساد ياتي في ظل تفاقم الازمة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية المترافقة مع اتساع حجم التململ والاعتراض على سياساته في سعيه الدائم والمحموم لاحتكار تمثيل الطائفة، فضلا عن دوره في الوصول بالوضع الاقتصادي و المالي الى حافة الانهيار، مما جعله يدخل الاستحقاق الانتخابي هذه المرة في ظل الشعور المتزايد بان قصر احاديثه وخطبه على الحديث عن المقاومة و دورها في الدفاع عن لبنان وحدوده وثرواته النفطية لم يعد كافيا، وان هناك حاجة لاجتراح قضية اخرى يمكن تقديمها للناخبين، هذامع العلم ان اولوية محاربة الفساد كانت احدى القضايا الاساسية (البند الرابع) من اتفاق مار مخايل بين حزب االله والتيار الوطني الحر في العام 2006، ورغم كل الاحاديث والوعود والتلميحات والاخبار والتوصيفات التي يتناول فيها الحزب موضوع الفساد وفي شكل دائم، لم يقدم دليلا واحدا خلال كل هذه السنوات على مدى ربع قرن من وجوده في السلطة، و لم يسم واحدا، ولم يتخذ اي تدبير او قرار في هذا الخصوص.

واذا كان لنا ان نشير الى العوامل التي تؤول الى استعصاء الفساد لا بديل من الاشارة الى ان برامج الاكثرية الساحقة من المعارضات التي تلجا الى تعداد شعاراتها وبرامجها على نحو ممل تقول فيه كل شيء ولا تقول شيئا، وفي صيغة عامة لا تشكل معيارا فعليا للتمييز بين الاتجاهات السياسية القائمة، ومقوما فعليا لتعيين اتجاه سياسي بعينه ياخذ المسافة اللازمة عن سائر اجنحة السلطة مما يؤول الى تضييع الحلقة الاساسية والموقع الذي ينبغي الانطلاق منه لوضع برامجهاا موضع التطبيق.

جدوى أي شعار و قوة أي برنامج انقاذي تكمن اولا واخرا في الحرص على الجانب السياسي قبل سواه، وهو لن يحصل عبر المساومات ولا يمكن ان يحصل الا عن طريق دور فاعل لسلطة الدولة، دولة القانون والمؤسسات ،ففي كل مرحلة يجري فيها الحديث عن الفساد تطرح مسالة الفساد المالي والاداري في حين ان الاصلاح الفعلي في كل شيء في السياسة، والادارة، والاقتصاد، والقضاء، و…… يبدا بالاصلاح السياسي وفي السعي الى استعادة سيادة الدولة من مغتصبيها في كل شأن، وفي مواجهة كل الوان المحاصصة والمقايضات وفي كافة المجالات، السياسية، والاقتصادية، والمالية، والادارية، ولاشك بان الرشاوى التي يتقاضاها كل موظفي الدولة على مدار العام لاتساوي صفقة من الصفقات التي يديرها السياسيون ، ولا تساوي السكوت عن المقايضات التي تتم بين اطراف السلطة، خصوصا في ظل الالية الراهنة للعبة السياسية اللبنانية القائمة على قاعدة ربط النزاع حول المسائل المختلف عليها، وما يستجره ذلك من مساومات ، وصفقات ، وتبادل للمنافع بين اجنحة السلطةالمتحاصصين فيعطلون القانون والدستور أو يعلقونه.

اذا لم توضع عملية سيادة الدولة واعادة بنائها في رأس الاولويات ونقطة للانطلاق من بنود اي برنامج انقاذي، سنجد أنفسنا اما م سيل ممتد من المساومات تحت تصرف وفي عهدة قوى لا يهمها من مشروع الدولة الا توزيعها حصصا على ذوي النفوذ في السلطة القائمة التي ليست هي سلطة الدولة بل سلطةتحالف من ارباب المال وزعماء الطوائف.

إقرأ أيضاً: انتخابات 2018: حزب الله يرهب جمهوره بحرب إسرائيلية افتراضية

في واقعنا المعاش سيادة الدولة ليست مدخلا او جزءا اصيلا من بنية النظام الطائفي والطبقة السياسية الحاكمة، بقدر ما ان التفريط بها يشكل مساحة لازمة لمنازعات الطوائف، و هوالشرط اللازم لبقاء الطائفية. واكبر انتهاك للسيادة هو تنائية السلطة ولاسبيل الى مواجهة ذلك الاببناء دولة القانون والمؤسسات. كلما جرى الحديث عن الفساد تطرح مسالة الفساد المالي والاقتصتدي والاداري في حين ان الاصلاح في كل شيء يبدأ بالاصلاح السياسي ،بسيادة الدولة.
الحرص على سيادة الدولة لايمكن الدخول اليها من شبابيك المحاصصة او من ابواب الصراع حول حصص الطو ا ئف والتأجيج الطائغي، والاستقواء بالخارج واستدراجه والتلطي وراء قضايا ما فوق وطنية( تغليب وجهة ان لا صوت يعلو فوق صوت الصراع مع الامبريالية وقوى الاستكبار العالمي واعتبار المصالح الوطنية اللبنانية قضية تكتيكية ينبغي تجاوزها لصالح القضية الاستراتيجيةالتي يقتضيها الحفاظ على الحالة الاسلامية التي تمتد من افغانستان الى سائر دول المنطقة، وفي حديث اخر على امتداد المعمورة ) او ما دون الوطنية باحتكار تمثيل الطائفة اونيل مقعد نيابي او مقعد وزاري.

واذا كانت كل ارباب السلطة من دون استثناء شركاء في الفساد، فما اكثر الوعود بمحاربة الفساد، سوى الفساد ذاته، وسوى كثرة الحديث عن محاربة الفساد ضد مجهول.

اي برنامج يعدد و يرصف مجموعة عناوين كبرى ، ويعد بافتتاح ورشة كبرى لمحاربة الفساد ويغيب مسألة سيادة الدولة التي تشكل لحمة اي برنامج وسداه يواجه مأزقا هو مأزق من هم في السلطة الذين يتحدثون عن اولوية محاربة الفساد في الوقت الذي يتوازعون الدولة و يعطلون قيامها من داخلها، وهو الى ذلك مازق الاغلبية الساحقة من المعارضات السياسية على حد سواء، التي تقف في الموقع الملتبس بين السلطة والمعارضة الحقيقية، ولا تحسن تعيين الحلقة المركزية في برامجها، مما يؤول الى تضييع نقطة الانطلاق من اجل وضع هذه البرامج موضع التنفيذ.

إقرأ أيضاً: هذه حدود التغيير الذي تحمله الانتخابات اللبنانية؟

الخروج من نظام المحاصصة ومحاربة الفساد لايتم عبر برامج يضعها ويستغيد منها المتحاصصون، بل يتم عبر رجوع قوى الاعتراض الى جادة الجد وافتتاج مسار فعلي لقيام معارضة حقيقية ومستقلة، تضع في أولوية أولوياتها مهمة تاسيس حركة شعبية ديمقراطية تخوض صراعا ممتدا في سائر المجالات لزيادة وزنها في المعادلة السياسية العامة، واكتساب القدرة تباعا على تعديل ميزان القوى الاجتماعي المختل بشكل كاسح لصالح قوى التحالف السلطوي القائم.

في حصاد البيدر لمؤتمر سيدر، وما ترافق معه من دعوات لخوض غمار الاصلاح، المواطن اللبناني سيدفع مجددا لقاء وعود لم تتحقق على امتداد ربع قرن، ولم تنتج سوى المزيد من المليارات من الدين التي صرفت من دون حسيب او رقيب.

السابق
دمشق تتهم إسرائيل بقصف مطار التيفور في سوريا
التالي
دفاعاً عن «الخرزة الزرقاء»